صورة تعبيرية لـ كافكا على الشاطئ

نظرة تحليليّة شاملة: كافكا على الشاطئ

صورة تعبيرية لـ كافكا على الشاطئ

تنبيه: هذه التدوينة طويلة، أعني أنها طويلة جداً وليست كأي تدوينة كتبتها من قبل هنا .. لذا من الأفضل لك حضرة القارئ العزيز جلب فُنجانَ قهوةٍ أو شاي أو أي وجبةٍ خفيفةٍ تسلّي نفسك بِها أثناءَ القراءة.

أوّل فكرة خطرت على بالي عند قراءتي الثالثة للرواية هي أنّها رواية مراهقين. ولا أعني بذلك استنقاصاً منها، لكنّها رواية تدور أحداثها حول الفتى كافكا ذي الخمسة عشر عاماً الذي يهرب من منزل والده ويعيش في متاهةٍ داخل نفسه. وهذا هو قصدي، فغالباً ما يكون هذا العمر هو عمر الضياع، عمر تغيّر الهويّة وأزمتها، عمر الصدمات والتجارب الجديدة، العمر الذي تتغيّر فيه المفاهيم وتتشكّل فيه القيَم، العمر الذي يكون فاصلاً بين الحياة الداخلية والحياة الخارجية. لذلك هي روايةٌ تصف هذه المرحلة من حياة الإنسان، وهي ذاتُ مرحلة الضياع التي يمرّ بها العجائز أيضاً بعد أن قضوا حياتهم بطولها وعرضها ليسألوا أنفسهم، هل كانت حياتي مُستَحقة؟ هل عشتُ حياتي كما أحب أم أنّني أُجبِرتُ على عيش حياةٍ لم أطلبها ولم أرغب بها لكنني وجدت نفسي داخلها وسط عبثيّة هذا الكون؟ هل هناك فائدة من تلك الذكريات التي كوّنتها أم أنّها محض سراب؟ ما المغزى من كل هذا؟ هل سنخرج من العاصفة يوماً ما؟ هذه الرواية هي رحلة داخل متاهة النفس البشريّة.

كافكا على الشاطئ بالتأكيد هي من أشهر روايات هاروكي موراكامي ـ إن لم تكن الأشهر ـ، وهي ـ بحسب علمي ـ ثاني رواية تُرجِمت له للعربية بعد الغابة النرويجية، وهي أوّل عمل أقرؤه لهذا الكاتب في 2013، ثمّ مرّت السنوات وقرأت فيها غالبيّة أعماله: الغابة النرويجية، رقص رقص رقص، ما بعد الظلام، ثلاثية 1Q84، جنوب الحدود غرب الشمس، النعاس، مقتل الكومنداتور، والعديد من القصص القصيرة. هذه الأعمال شكّلت لي رؤية واضحة حول أسلوب موراكامي العجائبي، ونظرة جليّة لتفسير رمزيّاته الغرائبيّة، وزاويةً مختلفة لمراقبة عوالمه الموازية. والآن، بعد عشرة سنوات تقريباً، عدتُ للرواية التي بدأت فيها رحلتي مع موراكامي، لقراءةٍ أعمق، وفهمٍ غائر لمعانيها.

ولأن نظرة القرّاء تختلف من قارئ لآخر كما هي نظرة الفنّانين والمصمّمين، فأنا لا أدّعي أنني قد ألممتُ بجميع جوانب الرواية، فهذا العمل ضخم، ومليء بالرمزيّات والالتواءات، وموراكامي بارعٌ في خلق عوالِم خياليّة تنصهر فيها الواقعيّة والسرياليّة، بالإضافة إلى أنّه لا يُقدّم أيّة إجابات عن الأسئلة التي يفتعلها، وهذا أجمل ما يميّز هذا النوع من الروايات: ترك الحريّة للقارئ في التفسير والفهم.

منحوتة المتاهة، هاروكي موراكامي، كافكا على الشاطئ

ملخّص سريع

كافكا تامورا، فتى يسكن مع أبيه في حيّ ناكانو في طوكيو، يقرّر في عيد ميلاده الخامس عشرة الهروب من المنزل والرحيل إلى بلدة نائية، وأن يعيش في مكتبة صغيرة. يشعر كافكا كما لو أنه يستعدّ لرحلة ستغيّره إلى الأبد، إلى الولوج في عاصفة لن يخرج منها إلّا بجروح غائرة لن تُشفى بسهولة، يُدرِك أنّه لن يعود إلى منزله، فيأخذ معه صورة لنفسه ولأختهِ الكبرى على الشاطئ حين كان كافكا صغيرًا.

يصل كافكا إلى بلدة تاكاماتسو في جزيرة شيكوكو، ويتعرّف في رحلته على ساكورا التي يستنجد بها بعد أن استيقظ ذات ليلةٍ في غابةٍ بقميصٍ ملطّخٍ بالدماء. وفي تاكاماتسو يُصادف مكتبة كوميورا ويتعرّف على مديرتها الآنسة ساييكي وموظّف الاستقبال أوشيما، الذي يقوم بمساعدته وذلك بالسماح له بأن يعمل في المكتبة، ثمّ يُساعد أيضاً في أن يهرّبه إلى كوخٍ جبليّ وسط الغابات وذلك بعد علمهم أنّ الشرطة تبحث عنه بسبب مقتل والده. من جهة أخرى، لدينا العجوز ناكاتا الغبيّ جداً الذي يقرر لسببٍ ما الرحيل إلى تاكاماتسو أيضاً.

وفي تاكاماتسو تتقاطع جميع الشخصيّات والأحداث في تفاصيل غريبة و غير مفهومة.

شخصيّات لابدّ من التعريف بها –

كافكا تامورا، هاروكي موراكامي

كافكا تامورا – الفتى المدعو كرو

كافكا هو أحد بطلي الرواية، حيث إنّ نصف الفصول تُروى من منظوره هو. رحلتْ والدة كافكا مع أخته عندما كان في الرابعة من عمره، وتركاه وحيداً مع والده الذي كان يحتقره لسببٍ ما، وحتّى أنه لم يشعر برحيل كافكا عن المنزل، لذا كانت الصورة التي أخذها معه هي الذكرى الوحيدة المتبقية من أمّه. هو لا يعرف حتّى اسمها الذي شطبه والده من دفتر العائلة. أمضى كافكا كل هذه السنوات في بيت والده يبني عضلاته الجسدية ويُحافظ على صحته العقليّة من أجل الهرب والنجاة، لكنّه يخشى ألا يستطيع النجاة من اللعنة التي حمّلها له والده: أنت ملعونٌ بلعنة أوديب، في يوم ما سوف تمارس الجنس مع والدتك وأختك وتقتل أباك. لذا، وخلال رحلته تساوره الشكوك حول كل النساء اللاتي يلتقي بهنّ، وتزداد شكوكه إذا انجذب لهنّ جنسياً. ولا يتوقّف الأمر هنا، فهو يخشى أيضاً من أحلامِه أن تكون لها السلطة أو أن تغيّر شيئاً في حياته الواقعيّة، لذلك دائماً ما تتكرّر العبارة: في الأحلام تبدأ المسؤولية.

كافكا Kafka في التشيكية تعني غراب، وكرو Crow في الإنجليزية غرابٌ أيضاً. الفتى المدعوّ كرو يرافق كافكا في رحلته، وهو كيانٌ له شكل غراب أسود يُحلّق فوق رأسه، يُسدي لكافكا النصائح عندما يكون في حاجة إليها. كرو هو نذيرٌ لحماية كافكا من الأخطار، إنّه أشبه بالصوت الداخليّ أو ضمير كافكا الحيّ. تماماً كعادة الشعراء حين يُخاطبون أنفسهم رغم عدم وجود أحدٍ معهم. وهكذا، يُمثِّل كرو الضمير الحيّ لكافكا، ليُخبرنا عن ضرورة الانتباه لصوتنا الداخليّ قبل الإقدام على أيِّ شيء، فهو دائماً يظهر عندما يدخل كافكا منطقة خطِرة جسديّاً أو عاطفيّاً. حين يسمع أحد اسم كافكا يخطر على باله فوراً اسم فرانتس كافكا الكاتب الشهير، لكن هذا العمل ليس له علاقة به إطلاقاً.

الغربان بالمناسبة كائنات ذكيّة، تستطيع الشعور بالموت واقترابه، وهذه الرمزيّة حيّة في أغلب الثقافات (ومنها الثقافة العربيّة نفسها). لهذا السبب، كان نعيبُ الغرابِ دوماً نذيراً للموت .. أو ربما يريد الكاتب إخبارنا بأن كافكا نصف حيّ ونصف ميّت كباقي الشخصيّات رغم كونِه في عزّ فتوّته؟ لذلك اختار اسمه المستعار واسم ضميره بهذا الشكل؟!

“لقد حدثت معي أشياءٌ شتّى، بعضها اخترته بنفسي، وبعضها لم يكن لي يدٌ فيها. ولم أعُد قادِراً على التمييز بين هذا وذاك، أقصد أن الأشياء كلها مقرّرة سلفاً، إنني أتبع مساراً قام أحدهم بوضعه لي مسبقاً. مهما فكّرتُ في الأشياء واجتَهدت فيها. في الحقيقة كُلّما بذلتُ جهداً أكبر، فقدتُ إحساسي بهويّتي. وكأن هويّتي مدارٌ قد شردتُ عنه بعيداً .. هذا مؤلم، بل حتّى أنه يُرعبني، مجرّد التفكير في هذا يجعلني أرتجف.”

السيد ناكاتا، هاروكي موراكامي

السيّد ناكاتا – الغبيّ جداً

العجوز ناكاتا هو البطل الثاني للرواية، لكن بخلاف فصول كافكا التي تُروى بضمير المتكلّم، ففصول ناكاتا تُروى بطريقةِ الرّاوي العليم. خلال الحرب العالميّة الثانية، عندما كان صبياً صغيراً، أصيبَ ناكاتا بمرض غامض أثناء رحلةٍ مدرسيّة جعله يدخل في غيبوبة لعدة أسابيع. ولما استيقظ، اكتشف أنّه قد حصل فجوة في ذاكرته أنسَته جميع الأحداث التي تسبق سقوطه غائباً عن الوعي. ليس هذا فحسب، بل وجد نفسه قد أصبح غبيّاً جداً (كما يصف نفسه)، فقدَ قدرته على القراءة وإدراك البيئة حوله، بدا الأمر وكأنه عادَ طِفلاً في الرابعة من عمره.

عاشَ ناكاتا حياةً رتيبة، وبعد أن فقد أبواه الأمل في أن يُعيدوه إلى وضعه السابق أرسلوه ليعيش في قرية نائية عند جدّه، إذ تعلّمَ هناك مهنة ترميم الأثاث وبرَع فيها وأتقنها، واكتشف أيضاً قدرته على التحدّث مع القطط. وعندما توفّي صاحب عمله، عاد إلى طوكيو وصار يتلقّى معونة من المحافظ، ويعمل في البحث عن القطط التائهة مقابل أجرٍ زهيد.

لم يستطع ناكاتا تذكّر شيءٍ مما حدث له قبل وأثناء الغيبوبة، ومنذ تلك الفترة فقدَ نصف روحه وصار يُلقي نصف ظلٍّ على الأرض، ولازمه شعور غامض بأن عقله سافر لفترة وجيزة إلى عالمٍ آخر، وهو اعتقادٌ يزداد حدةً على مدار الرواية. لذا يُقرر الذهاب في رحلة للبحث عن نصف ظلّه المفقود بعد أن نصحه بذلك أحد القطط التي تحدّث معها. ليجد أنّ القدَرَ يدفعهُ نحوَ تاكاماتسو.

«فجأةً، وجدتُ نفسي أسأل نفسي، ماذا أنا أصلاً؟ ماذا يكون ناكاتا؟ … أعني أن الأمر ليس أني غبيٌ وحسب، ناكاتا فارغٌ من الداخل. أخيراً فهمتُ هذا. ناكاتا يشبه مكتبةً ليس فيها كتابٌ واحد. لم يكن الأمر هكذا دوماً، تعوّدت أن يكون في داخلي كتب. ولوقت طويل لم أكن قادراً على التذكّر، لكنني الآن أتذكر. لقد كنتُ شخصاً عادياً، كأي شخص آخر. ولكن حدث شيءٌ ما وانتهى بي الأمر وعاءً فارغاً».

«صحيح، لكن إذا نظرتَ إلى الأمر من هذه الزاوية، فنحن جميعنا فارغون، ألا تعتقد هذا؟ نأكل، نتبرّز، نعمل بوظيفة بائسة لكي نحصل على راتبنا البائس، ونمارس الجنس من حين لآخر، إذا حالفنا الحظ. ومع هذا هناك أشياء شيّقة تحدث في الحياة. لا أعرف لماذا. كان جدّي يقول دوماً إن الأمور لا تسير أبداً كما تتوقّع، وهذا ما يجعل الحياة شيّقة».

كيوتشي تامورا – العزف على روح المعاناة

كيوتشي تامورا – العزف على روح المعاناة

والد كافكا، والده الذي تنبّأ له بالنبوءة سالفة الذكر. نحّاتٌ مشهور، واشتُهِرَ بعملٍ عُرِف باسم المتاهة. يصفه كافكا دائماً بأنه قاسٍ وعنيف، رغم أنه لا يشرح بشكل كامل ما يعنيه أو لماذا يشعر بهذه الطريقة. يُعثَر على جثّة النحّات مطعوناً في منزله عدّة طعنات. ورغم وجود كافكا في تاكاماتسو، إلّا أنه يجد نفسه فجأة في غابة بعد غيبوبة لا يتذكّر خلالها ما حدث وقميصه ملطّخ بالدماء فيعتقد أنه هو من قام بقتله، حتى لو كان ذلك أثناء غيبوبته.

كقرّاء، نعلم أن الذي قام بقتل كيوتشي هو ناكاتا نفسه قبل سفره إلى تاكاماتسو، حيث كان يبحث عن قطّة مفقودة، فيلتقي بكلبٍ متكلّم يقوده إلى منزل النحّات الذي يقول أن اسمه جوني ووكر، ويجبره على رؤيته وهو يقوم ببقر بطون القطط وتناول قلوبهم النابضة، وإحدى تلك القطط هي قطّة تعرّف عليها مسبقاً والقطة المفقودة إيّاها، فيقتله السيّد ناكاتا ويغمى عليه عند مدخل البيت، وحين يستيقظ يكتشف أنّه فقد قدرة الحديث إلى القطط، ويفتح مظلّته لتبدأ الأسماك بالسقوط من السماء كالمطر. ثم يتّجه نحو تاكاماتسو وكأنّ القدر يسيّره إلى ذاك الطريق.

السيد ناكاتي، هاروكي موراكامي

على كل حال، يدّعي النحاتُ أنه يقوم بأخذ أرواح القطط ليصنَع ناياً بحجم الكون يمكّنه من حصد جميع الأرواح. في الحقيقة، لم أفهَم رمزيّة الناي هنا ولا في قراءاتي السابقة ولا حتّى في آخر الكتاب عندما ذُكِرَ مرّة أخرى، لذا يتبقّى لديّ التفسير الواقعي: ما أراه هو مجرّد شخصٍ مختلٍّ عقلياً، مُكتَئب فقد حياته في السابق، فأصبح يعيش بنصف روح أيضاً كغيره من شخصيّات هذا العمل (ربما ما سبّب له هذه الحالة هي هرب زوجته وابنته قبل 10 سنين، من يدري؟!)، وهكذا وصفه كافكا بأنه شخصٌ جامدٌ بلا روح، وفنونه التي يصدرها للعالم بلا روحٍ أيضاً. لذا ظلّ يسعى بحثاً عن طريقة يستعيد فيها روحه، فقام بقتل القطط (المشهور عنها في جميع الثقافات بأنها بـ 7 أرواح) كي يستعد شيئاً من روحه المفقودة.

بطبيعة الحال، تكتشف الشرطة جثّة النحات، فتبدأ بالبحث عن ابنه الهارب من البيت، وعن ناكاتا كذلك، الَلذين صارا في تاكاماتسو.

«بالنسبة إلى أبي، ربما لم أكُن سوى واحداً من تماثيله، شيئاً يمكنه أن يصنعه أو يكسره».

«هذا أسلوب منحرفٌ جدًّا في التفكير!».

«في بيتنا، كان كل شيءٍ منحرفاً، وحين يكون كل شيءٍ منحرفاً، يُصبِح العاديّ غامضاً أيضاً. أدركت هذا باكراً جداً، لكنني كنت طفلاً فأين يمكنني الذهاب؟».

«لقد رأيت أعمال أبيك مرّات عدّة .. نحّات رائع. قطعه أصلية، مثيرة وقوية».

«ربما تكون هكذا، لكنّه كان ينشر الترسّبات الصلبة من تلك القطع في كل مكان كسمٍّ لا يمكنك الهرب منه، أبي لوّث كل شيءٍ لمسته يداه، وحطّم كل من اقترب منه. لا أعرف هل كان يقصد هذا أم لا. ربما كان مضطرّاً لفعل هذا، وربما كان مجرّد جزءٍ من مكياجه … ونصف جيناتي آتٍ من هذا. قد تكون أمي هجرتني لهذا السبب. ربما أرادت أن تقطع صلتها بي لأنني ولدت من هذا المصدر، لأنني كنت ملوّثاً».

كافكا تامورا، كافكا على الشاطئ

ساكورا – زهرة الكرز اليابانية

ساكورا هي الفتاة التي يلتقيها كافكا خلال رحلته إلى تاكاماتسو، تكبُر كافكا ببضع سنوات، وسنّها مقاربٌ لسنّ أختِه الهاربة. ساكورا فتاة لطيفة جداً تماماً كزهرة الكرز اليابانيّة، وفيها حنيّة ودفءِ الأخت الكبرى اتجاه إخوانها الصغار، هي الشخصيّة الوحيدة الحيّة في هذه الرواية (ربما لهذا السبب سمّاها موراكامي بساكورا)، لذلك يجدها كافكا جذّابة للغاية، ويخشى أن تكون أخته كي لا تتحقّق نبوءة أوديب.

يفرّ كافكا إليها بعد استيقاظه في الغابة مضرَّجاً بالدماء، ويروي لها حكايته، فتعامله كما لو كان أخوها (عدا ذلك الجزء الجنسي!) حيث أن ساكورا -فيما يبدو- أيقنت أنه ليس أخوها، فتحاول تخليصه من هذه اللعنة عبر فعلها . لكن فيما يبدو أن الشكوك ظلّت تساور كافكا وصار يحلُم بها أحلاماً جنسيّة تملؤه شكاً وارتباكاً.

«حتّى لقاءات الصدفة .. ما هي تتمّة العبارة؟»

«هي نتائج الكارما»

«صح .. صح .. ولكن ما معنى هذا؟»

«أن الأشياء التي تحدُث لنا في حياتنا مكتوبة في حياتنا السابقة، وأنّه حتى في أصغر الأشياء لا وجود للصدفة»

أوشيما، كافكا على الشاطئ

أوشيما – المخنّث المثقف

أوشيما هو موظّف في مكتبة كوميورا التذكاريّة التي يرتادها كافكا في تاكاماتسو ثمّ يعمل بها. أوشيما قارئٌ نهم وجميل، بمجرّد أن تلمحه تعرف أنه مخنّث لوطيّ (تماماً مثلما حدث عندما لمحه هوشينو). أوشيما شاب/فتاة مهذّب، لا يُشارك خصوصيّاته إلا مع المقرّبين منه، وبما أنّ كافكا قد صار من المقرّبين، يُطلِعه على سرّه: أوشيما مخنّث، لديه جسد غير مكتمل، مصابٌ بمرضٍ نادر وهو الهيموفيليا كما أنه وُلِدَ بأعضاءٍ أنثويّة فيشعر بالغربة والتمييز ضدّه لأنه كذلك (تؤ تؤ يا حرام!)

بسبب هذا الشعور، أوشيما بلا روحٍ أيضاً كحال بقيّة الشخصيّات، رغم أنه قد حقّق المعادلة الصعبة، إذ يحملُ رجلاً وامرأةً في جسده، إلّا أنه يشعر بالخواء المستمرّ، فيتهوّر في قيادة السيارة لإغراء القدر بأخذ روحه حيث إنه غالباً ما يفكر في الموت. ومع ذلك، يجد العزاء في الموسيقى الكلاسيكية والمكتبة وإشراك كافكا في المناقشات حول الفلسفة والأدب. وهذا أمتَع جزء في الرواية، نقاشات أوشيما وكافكا جميلةٌ بحقّ رغم أنّ بعضها بدا وكأنّه استعراض لثقافة المؤلف وحسب .. ولكن لا بأس بهذا أبداً، فهي ممتعة حقاً.

يخبر كافكا أوشيما جميع أسراره بما فيها لعنة والده التي تُلاحقه، ثمّ حين تبدأ الشرطة في البحث عنه بعد مقتلِ النحّات، يأخذه بعيداً إلى قلب غابات شيكوكو إذ يملك كوخاً هناك ليختبئ فيه إلى حين انتهاء الشرطة من بحثها.

“قديمًا لم يكن الناس ينقسمون ببساطة إلى رجال ونساء، بل إلى ثلاثة أنواع: رجل / رجل، ورجل/ امرأة، وامرأة/ امرأة. بمعنى آخر كان كل شخص شخصين. وكان الجميع سعيدًا بهذا دونما كثير تفكير به. ثم أخذ الرب سكينًا وقطع الجميع إلى نصفين متساويين تمامًا. فصار العالم منقسما فقط إلى نساء ورجال، وهكذا صار الجميع يقضون أعمارهم سعيًا، كلٌّ وراء نصفهِ الآخر.”

الآنسة ساييكي، هاروكي موراكامي

الآنسة ساييكي – نصف ظلّ بنصف روح

أكثر شخصيّة معقّدة ومثيرة للاهتمام في هذا العمل، وهي امرأةٌ في منتصف العمر تُدير مكتبة كوميورا التذكارية التي تُشكّل لها ذكريات خاصّة جداً، فقد كانت تلتقي بحبيبها (الذي يُدعى كافكا أيضاً، كافكا كوميورا) في هذا المكان قبل أكثر من عشرين عاماً. كانت الآنسة ساييكي وكوميورا حَبيبَين منذ الطفولة، حتّى أن أوشيما وصفهما وهو يشرح الموضوع لكافكا بما معناه: هل تذكر قصّة أنّ البشر كانوا روحاً واحدة وأنّ كل شخصٍ يُحاول البحث عن روحه الأخرى؟ لم يتعيّن على الآنسة ساييكي البحث عن روحها الأخرى فمنذ أن خُلِقَت وجدتها أمامها.

في تلك الفترة ألّفت وغنّت الآنسة ساييكي أغنية “كافكا على الشاطئ” كتعبيرٍ عن حبّها العميق. وكعادة كل الأشياء الجميلة التي تنتهي، يموت حبيب الآنسة ساييكي وتفقد حياتها منذ ذلك الحين، وتفقد نصف ظلّها أيضاً. والآن صارت الأغنية مجرّد ذكرى قديمة حزينة من تاريخها المؤلم.

لم تتغلب الآنسة ساييكي على ألم فقدان حبها الأول، فقررت اعتزال الناس ولم يعلم أحد مكانها لمدّة عشرين سنة، ثمّ ظهرت في مسقط رأسها في تاكاماتسو لتعمل بذات المكتبة وكأن شيئاً لم يحدث.

اقتباس من كافكا على الشاطئ

الآنسة ساييكي تحكي عن نفسها

أغنية كافكا على الشاطئ

لوحة كافكا على الشاطئ كما وُصِفت في الرواية تقريباً

لوحة كافكا على الشاطئ كما وُصِفت في الرواية تقريباً

خلال مبيت كافكا في الغرفة الخدميّة في المكتبة، يظهر شبح الآنسة ساييكي في عمر الـ15 يتأمّل لوحة “كافكا على الشاطئ” المُعلّقة على جدار الغرفة. وينجذب كافكا تامورا للشبح، ويتأثر بجمال الآنسة ساييكي الحقيقيّة الأخّاذ وذكائها (لا تصدّقوا، إنها مجرّد عجوز ولكن كافكا مصاب بعقدة أوديب بالفعل!)، وتنجذب له بدورها. تساوره الشكوك عن كونها أمه، ويُحاول سؤالها عن فترة غيابها التي قضتها بعيدةً عن الجميع عطفاً على لعنة أوديب التي تُحرّك الرواية، لكنّه لا يأخذ منها جواباً صريحاً. لذا، لا يعبءُ بهذه الشكوك، فيواقع الآنسة ساييكي وتواقعه.

هاروكي موراكامي يوضّح فلسفته فيما يتعلٌق بالأرواح في هذا الأمر، فعبر الرواية يحكي موراكامي عن أن الأرواح قد تنتقل من جسد لآخر إذا ما تمّ استحضارها ذهنيّاً (وهذه عقيدة بوذية باطلة، لكن سأعتبر أنها تحدث). ومن هنا أقتبس لما كان يصفه كافكا خلال المواقعة إيّاها: “لابدّ أنها تحسبني حبيبها الميّت منذ وقتٍ طويل، ولذا تفعل ما اعتادا على فعله هنا في هذه الغرفة. نائمةٌ تأتي بالحركات التي اعتادتها قبل وقت طويل. أفكّر أنني من الأفضل أن أوقظها، فهي ترتكب خطأ فظيعاً، وعليّ أن أُعلِمها. -هذا ليس حلماً- إنها الحقيقة. ولكن كل شيء يحدث بسرعة شديدة، وليس لدي القوة لأقاوم. أفقد توازني كليّاً ونغوص في دوّامة من دوامات الزمن.” إن الآنسة ساييكي قد استحضرت روح الفتى الذي أحبّته خلال التلامس، وهذا يفسّر كيف رضيتْ بالممارسة مع ابنها (هل هو ابنها حقاً؟!)، إن الجسد هو جسد ابنها، ولكن روح حبيبها استعارت هذا الجسد .. لذلك في وقتٍ آخر ساييكي الغائبة عن الواقع أخبرت كافكا: “نحن جميعاً نحلم أليس كذلك؟ لمَ كان عليكَ أن تموت؟” وحبيبها يُجيبها على لسان كافكا: “«لم يكن بيدي حيلة»” .. نصف الظل للآنسة ساييكي اكتمل بعد التقائها بكافكا، وكأن موراكامي يرمز لنصف الظل بالروح المحترقة المتعبة التي لا تكتمل إلا بلقاء نصفها الآخر. وهكذا نحن في واقعنا .. سنبقى أحياءً بنصف ظل ونصف روح إلى أن تكتمل ظلالنا!

لكن في الحقيقة، الفقرة السابقة كنت قد كتبتها بعد قراءتي الثانية، بيدَ أن لديّ نظريّة أخرى بهذا الخصوص سأوردها تباعاً.

هوشينو، كافكا على الشاطئ

هوشينو – سائق الشاحنة من العالم الموازي

يُسافر السيّد ناكاتا إلى تاكاماتسو استيقافاً، وخلال رحلته يلتقي بـ هوشينو الشاب المهذّب سائق الشاحنة الذي يتكفّل بإيصال ناكاتا إلى وجهته ويبقى معه حتّى آخر الحكاية. شخصيّة هوشينو تُمثّل القارئ، فهو متعجّب جداً من السيّد ناكاتا وصبور معه في ذات الوقت، يحاول فهم ما يرمي إليه وفكّ ألغازه، إلّا أنه لا يصل إلى نتيجة مهما حاول الفهم، وهكذا يُرسِل إلينا موراكامي رسالةً عبر شخصيّته أنه لا داعي لفهم جميع الأحداث وملءِ كلّ الفراغات، فلا أحد سيستطيع فعل ذلك.

هوشينو شابٌّ عشرينيّ ليس له هدف في الحياة، يعمل كسائق شاحنة لأن جميع الوظائف الأخرى قد طُرِدَ منها. ومع ذلك، فهو راضٍ وواثق من نفسه، ولكن مع الأحداث التي خاضها مع السيّد ناكاتا يُقرّر أنه حينما تنتهي هذه الرحلة سيبدأ حياة جديدة ذات مغزى أكبر.

تقاطع الخطوط في تاكاماتسو

أحاديث هوشينو وناكاتا ظريفة وساخرة وعميقة، ولا تخلو من الغرابة، يحدّثه ناكاتا عن حجر المدخل، وأنه متّجه إلى تاكاماتسو للعثور عليه وفتحه مجدّداً. حاول هوشينو فهم ماهيّة هذا الحجر، ومدخل ماذا؟ وماذا يفعل؟ وماذا سيستفيد؟ لكن كما هو متوقّع، لم يتلقّ جواباً، لذا قرّر أن يتبَع ناكاتا بلا أيّ محاولة أخرى للفهم.

عندما يسير هوشينو في طرقات تاكاماتسو مساءً يُصادف رجلاً عجوزاً يشبه الكولونيل ساندرز (صاحب مطعم دجاج كنتاكي KFC) الذي يُعرّف بنفسه على أنّه ليس بشراً ولا إلهاً ولا بوذا، هو كيان مستقلّ يؤدّي مهمّة فتح المدخل وقفله، لذا يدلّ هوشينو على مكان الحجر فيصحبه إلى ناكاتا بدوره.

يبدأ ناكاتا بالحديث مع الحجر، الذي يوحي إليه أن يقوم بقلبه عند هبوب العاصفة، وقلب الحجر هنا يعني فتح باب المدخل. وعند انتهاء العاصفة يعود ناكاتا للحديث مع الحجر، الذي يوحي إليه بإيجاد الآنسة ساييكي. فيذهبا في اليوم التالي بحثاً عنها، لنكتشف أن الآنسة ساييكي هي من قامت بفتح المدخل قبل زمنٍ بعيد، وأن هناك كوارث أحدثت اختلالاً في موازين العالم بسببها، وهاقد حان الوقت ليعود كل شيءٍ كما كان.

تتقبّل الآنسة ساييكي هذه الحقيقة، وأن حياتها وصلت لنهايتها، فتعطي مذكّراتها لناكاتا ليقوم بحرقها كاملة وكأنه لا وجود لها. ويعود الرجلان إلى الشقّة ينتظران هبوب عاصفة أخرى لإغلاق حجر المدخل. ويغطّ ناكاتا في نومٍ عميق لا يستيقظ بعده، فيتورّط هوشينو بجثّته وبحجر المدخل إيّاه.

اقتباس من كافكا على الشاطئ

في ذلك اليوم، يخرج هوشينو إلى الشرفة ليكتشف أنّه صار لديه القدرة على الحديث مع القطط، فيخبره القطّ أن ناكاتا مشهورٌ بين القطط كثيراً، وهوشينو صار بديلاً عنه الآن وأن عليه إقفال حجر المدخل، لكن قبل إقفاله عليه أن يقتل ذلك الكائن، هو كيانٌ مستقلّ، ليس بشراً ولا إلهاً ولا بوذا، وعليه أن يقتله مهما كلّف الثمن. فتبدأ العاصفة، ويخرج ذلك الكائن من فمِ ناكاتا الميّت، ويتقدّم نحو هوشينو الذي استطاع قتله بصعوبة، وقلب الحجر مرّة أخرى. لينغلق المدخل أخيراً.

اقتباس من كافكا على الشاطئ
 
هوشينو، كافكا على الشاطئ

في الفترة الممتدّة بين فتح حجر المدخل وإغلاقه، يتوغّل كافكا في عمق الغابة قرب الكوخ الذي يختبئ فيه. يتغيّر الطقس خلال مسيره، ويعثر على جنديّين هاربين منذ الحرب العالميّة الثانية، بدا وأنهما خرجا من الماضي أو أن الزمن لم يمرّ عليهما، فهما يبدوان بنفس الهيئة الشابّة حتى بعد مضي السنوات. يصطحب هذان الجنديّان كافكا إلى المدخل، في قريةٍ صغيرة. هذه القرية على الأغلب هي البرزخ، المنطقة الفاصلة بين الحياة والموت، العالم الذي تلتقي فيه الأرواح الميتة مع الأرواح المعذّبة مع الأرواح التي لم توجَد بعد، حيث لا وجود للزمن هنا ولا أهميّة للأسماء فيها. أرواحٌ تسبح في الملكوت بانتظار “الوعاء” الجسديّ الذي ستنزل فيه إلى الأرض.

اقتباس من كافكا على الشاطئ

اقتباس من كافكا على الشاطئ

يلتقي كافكا بالآنسة ساييكي التي ماتت توّاً، وتطلب منه أن يعود إلى حياته وأن لا يلتفت إلى الوراء، فما مضى قد مضى، وسيبقى ماضٍ على حاله. الآنسة ساييكي نسيَت كلّ شيء مع احتراق مذكّراتها إلّا وجود كافكا، نصف روحها الآخر، وقد تنساه أيضاً بعد مرور زمن، لكنّها تطلب منه طلباً واحداً فقط:

اقتباس من كافكا على الشاطئ

يعود كافكا أدراجه إلى الكوخ ثمّ إلى المكتبة، يقرّر أن يعود إلى منزله في طوكيو ويستأنف دراسته، يودّع أوشيما ويغادر. وفي القطار المتّجه إلى طوكيو يغفو، وتنتهي الرواية بهذه العبارة:

اقتباس من كافكا على الشاطئ

قطط تتحدّث وأسماك تهطل من السماء وحجر مدخل وعقد أوديب ومتاهة ! لقد ضعت !

لكن لا بأس، فجميع ما كتبته قبل هذا السطر ما هو إلا سرد للأحداث مع شرح خفيف لها، سأورد الآن التحليل لمواضيع الرواية والنظريّات تباعاً:

المتاهة، كافكا على الشاطئ

المتاهة

المتاهة هي أشهر أعمال والد كافكا. وتمثِّل المتاهة في الحقيقة تحدياً أمام شخصيّات الرواية، فجميع الشخصيات (باستثناء ساكورا) ضائعون في متاهتهم الخاصّة، بدءاً من كافكا وصراعه مع ذاته، مروراً بناكاتا الذي يشعر بأنه خاوٍ “كالمكتبة بلا كتب”، وباقي الشخصيّات.

يمتدّ مفهوم هذه المتاهة قديماً إلى سكّان الرافدَين ما بين النهرَين، حيث إنّهم ـ وبحسب كلام أوشيما ـ كانوا يُخرِجون أمعاء الحيوانات والبشر ويستخدمونها للتنبؤ بالمستقبل. لقد كانوا مُعجبين بالتكوين المعقد للأمعاء، ولهذا فإن أساس كلمة”المتاهة”، هو كلمة “الأمعاء”. مما يعني أن مبدأ المتاهة بداخلنا، ويتداخل هذا مع المتاهة الخارجية. وبمجرّد أن تتمكّن من حلّ المتاهة الداخليّة ستشعر بالسلام في متاهتك الخارجية، أو ربما العكس، فأنت ستمرّ بكثيرٍ من المتاهات الخارجيّة حتى تفهم متاهتكَ الداخليّة بشكلٍ أفضل، تماماً كما قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكرّم وجهه: “تحسب أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر” وهذا بالضبط ما حدث مع كافكا الذي وجد نفسه وسطَ عالَمٍ كبير لا مفرّ منه.

اقتباس من كافكا على الشاطئ

العاصِفة، الدوّامة، المتَاهة، جميعَها مجازات واستعارات لوصفِ شيءٍ واحد: الحَياة. لكن ليس هذا وحسب، بل ننتقلُ في الرواية لمفهومٍ آخرَ عن المتاهة، وهي متاهة الزمن. الفتى المدعوّ كرو يُخبِر كافكا أن علاقتهُ مع الآنسة ساييكي ما هي إلا “متاهة زمنيّة” لا يريد كافكا الخروج منها، كتلميحٍ مباشرٍ من الكاتب أن روحَ حبيب َالآنسة ساييكي قد تلبّست جسدَ كافكا بالفعل عند فتح المدخل.

يتعلّم كافكا الكثير عن نفسه خلالَ المتاهاتِ التي يخوضها، لكنّه أيضاً يُعاني من عذاب الألمِ والخسارة، وهي فاتورةٌ ضروريّة لحلّ عقدة المتاهة الداخليّة. في النهاية، يصل إلى الغابة، وهو نوع آخرُ من المتاهات حيث يواجه كافكا ألغازَ ماضيه وحاضره ويتصالح معها. وكلّما توغّل في الغابة أكثر شعرَ أنه يتوغّل في متاهته الداخليّة أكثر .. وهذه الجزئية بالذّات ذكّرتني بفيلم متاهة بان الذي كتبتُ عنه من قبل، كلا العملين يحكيان عن ذات الأمر ولكن من منظورَين مختلفين.

عقدة أوديب والقدر والتسيير والتخيير

عقدة أوديب هي توصيفٌ لحالة نفسيّة من نظريّة التحليل النفسي للعالم الجنسانيّ سيجموند فرويد، يدّعي فيها أن أول أمرأةٍ ينجذب إليها الطفل هي أمّه، لذا يتولّد لديهِ شعورٌ بالحب الجنسيّ تجاهها يؤدّي به لأن يغار من أبيه حتّى يصل به الأمر إلى قتله. بالطبع، فإن هذه العقدة أُثبِت فشلها بعد سنين من البحث والدراسة، ومع ذلك فما زالت تُستخدم حتّى اليوم لفَهم طبيعةِ المجرم.

اسم “أوديب” نفسه هو إشارة إلى أسطورة أوديب اليونانية، الذي يحاول طيلة حياته تجنّب النبوءة المشؤومة التي نبّأته بها العرّافة، لكنّه يجد نفسه مهما حاول تجنّب هذا المصير القذر، مهما اختبأ وارتحل، يجد نفسه يسير تماماً كما خُطِّطَ له، وأنه في النهاية قتلَ أباه ونام مع أمه. إنه مسارٌ يتبعه وضعهُ له أحدهم، حيث لا وجود للصدفة فيه ولا يمكن الفرار منه. تماماً كما حدث مع كافكا الذي كلما حاول الهروب وجد نفسه نائماً مع أخته ثمّ أمه، يرافقه شعورٌ دائم بالخوف والفزع من كونه قد قتل أباه بالفعل، رغم وجود مسافاتٍ نائيةٍ بينهما.

الشخصيات عموماً في هذه الرواية مهووسةُ بالقدرِ والتنبؤ ، فقد تركوا معتقداتهم حول المستقبل تحكمُ خيارات حياتهم وعلاقاتهم بطرقٍ واعية وغير مدركة. يقود هذا الإحساس المشوّه بالواقع الشخصيات إلى وضع أنفسهم في مواقفَ خطيرةٍ أو علاقات غير سعيدة لأنهم يعتقدون أنهم مجبرون على ذلك من خلال مصيرٍ محددٍ سَلفاً. يُظهِر موراكامي أن الاعتماد على الإيمان بالقدَر يمنع الناس من اتخاذ خياراتٍ عقلانية ، وفي الواقع يمكن أن يقودهم إلى الشعور بأنهم محاصرون في مواقف يكون لديهم فيها حق الاختيار.

هل نحن نتبع طريقاً لن نحيد عنه حقاً؟ هل هذا مغزى الرواية؟

في الحقيقة لا، مع أن موراكامي لمّح لهذا بكثيرٍ من الصفَحات، لكني لا أرى الأمر بهذا الشكل. ما أراه حقاً -وبنظرةٍ واقعية- أنّ كافكا فقدَ حنان أمّه وأخته، فقد َدفءَ العائلة، لذلك أراد تعويض هذا الفقد بأن ينام مع ساكورا والآنسة ساييكي، خاصّة أن أباه الذي يحتقره كان قاسٍ عليه ويَعدّه شيئاً جامداً من أشياء هذا البيت. وكنوعٍ من هذا التشييء، تنبّأ له بهذه النبوءة القذرة. وهذه النبوءة أثقَلت كاهل كافكا بحق، ومهما حاول الهروب منها وجد أنّها تلاحقه، لذلك قرّر الإيمان بها، وأن يؤمن بأن ساكورا هي أخته وأن الآنسة ساييكي هي أمه، كي يتخلّص من هذه النبوءة عبر القيام بها، ويتصالح أخيراً مع واقعه، وأن أمه وأخته رحلت عنه بدون سببٍ وجيه. فأحياناً، لا مجال للهرب من العاصفة إلا عبر خوضها. (وهذا ما قاله أوشيما في إحدى الحوارات التي لم استطع إيجادها).

كافكا على الشاطئ

سترونج إندبندنت شخصيّات !

تكافح الشخصيات في الرواية للتغلب على التحديات الشخصية كي تستطيع الاعتماد على ذاتها في النهاية. بالإضافة إلى المعاناة من العزلة والفقدان، كثيراً ما تتصارع الشخصيات مع مسألة ما إذا كان يجب مواجهة تجاربهم الكبرى بمفردهم. يوضّح موراكامي أن تنمية القوة الشخصية والقدرة على أن تكون وحيداً أمرٌ مهم بالطبع، لكن من المهم أيضاً قبولُ الدعم ِمن الآخرين.

العزلة، موضوعٌ رئيسيّ في الرواية رغم أنّها ليست واضحة كوضوح عقدة أوديب أو المتاهة، تحاول شخصيّات موراكامي تبريرَ الموت والخسارة لذا يجدون أنفسهم يشعرون بالوحدة الشديدة. يجدون أيضاً أنه من المستحيل مشاركة عواطفهم ورؤاهم العميقة مع الآخرين بشكل كامل. مع ذلك، فإنَّ حالة الوحدة هذه يمكن أن تساعد الشخصيات أيضاً على فهم أنفسهم بشكلٍ أفضل.

يقود أوشيما كافكا إلى كوخٍ ناءٍ، حيث يختبر هناك العزلة الحقيقية. يتصارع كافكا مع بعض أكبر مخاوفه ويتغلب عليها، وفي النهاية يتصالح مع حقيقة رحيل والدته وأخته. على الرغم من أن ثلاثتهم، أوشيما وشقيق أوشيما وكافكا، لديهم جميعاً تجارب مماثلة في الغابة، إلا أنهم يعترفون بأن مثل هذه التجارب خاصة ومن الأفضل تركها دون مناقشة. اختارت الآنسة ساييكي أيضاً حياةً انفرادية وخصوصية ًمماثلة بسبب فقدانٍ حبيبها. تحتفظ بسجلٍ دقيقٍ لماضيها، لكنها ترفض مشاركته مع أي شخص، حتى تقابل ناكاتا، وهو شخص يُساء فهمه بنفس القدر ومنطوٍ على ذاته. تطلب منه أن يحرق الأسرارَ الواردة َفي مذكراتها، وهو طلبٌ يفهمه ويتعهد به ضمنياً. في هذه اللحظات، تستمد الشخصيات القوة والبصيرة من الفترات التي قضتها في انعكاس الذات المنعزلة. إن عزلتهم خاصةٌ للغاية، لكنهم يجدون أيضًا إحساسًا بالألفةِ مع الآخرين الذين عانوا من لحظات عزلةٍ مشابهة.

على الرغم من أن العزلة والاعتماد على النفس يمكن أن يكونا مصدراً للقوة والشفاء والسلام النفسيّ، يوضح موراكامي أن قبول مساعدة الآخرين وحبهم أمرٌ ضروري أيضاً. لقد عمل كلّ من ناكاتا وكافكا بجدّ لتحقيق الاكتفاءِ الذاتيّ. فناكاتا مثلاً تعلّم ببطءٍ كيف يعيش بمفرده بعد أن فقد ذكرياته، مستفيداً من مواهبه الخاصة لكسب لقمة العيش. وأنمى كافكا عضلات جسده وعقله ليستطيع الهرب والاعتماد على نفسه بمجرد أن يبلغ الخامسة عشر، هاربًا من البيئة المسمومة في منزله. كلا الشخصيتين فخورين بحق بقوتهما، لكن العيش بهذه الطريقة يعني أيضًا أنهما يفتقران إلى علاقاتٍ ذات مغزى، وهما معرضان للخطر بشكل خاص في لحظات الخطر. فناكاتا، نظرًا لكونه مسنًا ومُعوقًا، يواجه صعوبة ًفي تنفيذ مهمته. يتطلب الأمر لوجود هوشينو لمساعدته. أصبح هوشينو وناكاتا صديقين، ومن خلال هذه الصداقة تعلّما الاعتماد على بعضهما البعض. من خلال احترام رغبات ناكاتا ورؤيتها في الوقت الذي لا يراها الآخرون، يستطيع هوشينو تعزيز شعور ناكاتا بقيمة الذات. وفي الوقت نفسه، يعطي كافكا الأولوية في البداية لقوةِ الشخصية والاستقلاليّة على تكوين الصداقات. على الرغم من أنه كان حذرًا في البداية من ساكورا وأوشيما، إلا أنه سرعان ما أدرك أنه يجب عليه الاعتماد عليهما إذا كان يأمل في البقاء على قيد الحياة في المدينة، مما مكّنه من تكوين صداقات ذات مغزى مع كلا الشخصيتين. وفي وقت لاحق، تسمح له علاقته القوية مع الآنسة ساييكي بالشعور بالحب الأول ولسعةِ الخسارة. ببطء، بدأ في تكوين روابطَ لا تساعدهُ على تخطّي الصعاب فحسب، بل تساعده في النهاية على معالجةِ إحساسهِ العميق ِبالوحدةِ الناجم عن هجرِ والدته.

بالإضافة إلى الاعتماد على القوة الداخلية وحبّ الأصدقاء،على الشخصيات أيضاً أن تتصالح مع فقدان أحبائهم من أجل تحقيق الاعتماديّة على النفس بشكلٍ كامل. في نهاية الرواية، تخلّى كافكا عن قراره باعتباره هارباً منعزلاً، بعد أن شكل روابط عميقة مع مَن حولَه. وفي ذروة ٍهذا التحول، يواجه كافكا شبح الآنسة ساييكي، وبناءَ على حديثها، يوافق على أن والدته وأخته تحبّانه رغم أنهما تركنَه ورحلتا، ويختار أن يغفر لهما. وبعد لحظة الخلاصِ هذه، يصير كافكا قادراً على ترك الغابة والكوخ والعودةِ إلى حياتهِ الطبيعية. نعم، العفو عند المقدرة، أو الغفران هي فضيلةٌ سامية وقوّة عظيمة وخلاصٌ نفسيّ من براثن النفس الأمارة بالسوء. الآنسة ساييكي بدورها مسكونةٌ بفقدان حبيبها، لكن على عكس كافكا، هي غيرُ قادرةٍ على التغلب على ألم هذا الفقد، وتشعر دائماً بأنها ناقصة وغير مكتملة، بنصف ظلّ ونصفِ روح. ولما أخفقت علاقتها بكافكا في ملء هذا الفراغ، أدركت أنها لن تكون قادرة حقًا على التغلب على وحدتها، فينفجر قلبها وتموت. وهكذا، يُظهِر موراكامي أن التركيز الشديد على الراحلين يمنع تكوين علاقات جديدة ومستدامة، وقد يؤدي في النهاية إلى التهلكة.

كافكا على الشاطئ

الموسيقى والوعي الذاتي

الموسيقى في جميع أعمال موراكامي مهمّة جداً، تَكشفُ الموسيقى أن بإمكانها المحافظة على المشاعر القديمة من الماضي وتجديدها. أغنية “كافكا على الشاطئ” كُتبت بواسطة الآنسة ساييكي في شبابها تجسيدًا لحبّها الطفوليّ لصديقها. حين يستمعُ كافكا إلى الأغنية، يشعر وكأنه قد عاش معها في ذلك الزمن، وأنها تخاطبه بشكل مباشر. على الرغم من أنه أصغر بكثير من الآنسة ساييكي، إلا أنه بدأ يتخيل أنه يمكن أن يكون الفتى من ماضيها، كما لو أن الأغنية نقلته إلى ذلك الوقت. تثير الأغنية أيضاً مشاعرَ قوية في الآنسة ساييكي حتى بعد أكثر من عشرين سنةٍ على كتابتها وإصدارها، لذا تبدأ علاقة غرامية مع كافكا لأنها تشعر بأنها انتقلت إلى ذات الحالة العاطفية التي كانت في شبابها من خلال عودة ظهور الأغنية. وفي تطوّر سريالي، تستحضر الأغنية أيضاً شبحاً يشبه النسخة الأصغر من الآنسة ساييكي ليظهر أمام كافكا في المساء. وهكذا، يرمي موراكامي تلميحاً أن الموسيقى تتمتع بالقدرة على جعل المستمعين يتعرفون على مشاعر كاتب الأغاني بل ويجربونها بأنفسهم.

أسلوب هاروكي موراكامي الأدبي

مواضيع موراكامي الأدبية المتكررة في أعماله

الموسيقى كموضوع أدبيّ في جميع أعمال موراكامي هي فكرةٌ مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالوعي الذاتي والتفكير. من خلال الاستماع بعناية إلى الموسيقى الكلاسيكية والنظر في تعقيداتها وعيوبها، تكون الشخصيات قادرة على اكتساب منظور مختلف حول حياتهم الخاصة وحتى مواجهة فكرة الموت دون خوف. نظراً لأن أوشيما يعاني من مرض الهيموفيليا، غالباً ما يُفكّر بالموت. مثلاً، يقوم بقيادة سيارته بشكل متهور، وإذا تعرّض لحادث، فسيموت بسرعة وبدون ألم. لكن أوشيما أيضاً تزعجه فكرة الموت بموسيقى مختلفة عن سوناتا شوبرت حيث أنّه يجد هذه الموسيقى جميلة على وجه التحديد لأنها تحتوي على عيوب لأنها ناقصة مثل أوشيما نفسه.

هوشينو مفتون بقطعة من الموسيقى الكلاسيكية. أثناء قيامه بمساعدة ناكاتا ، يسمع هوشينو أداءً مسجلاً لقطعة بيتهوفن لأول مرة. على الرغم من أنه لم يكن أبدًا مهتمًا بالموسيقى بشكل خاص من قبل ، إلا أن هوشينو يشعر بالتأثر بجمال الموسيقى – لدرجة أنه يبدأ في إعادة فحص حياته والاختيارات التي أوصلته إلى هذه اللحظة. قاده حبه الجديد للموسيقى إلى التفكير بشكل نقدي في ماضيه ، ويقرر أن تهوره في مصادقة ومتابعة ناكاتا هو بداية حياة جديدة وأكثر إرضاءً.

نظريّات وتفسيرات

نظريات

النظريّة الأولى: الساذجة

في الحقيقة هذا التفسير الذي كنتُ أصدّق به في قراءتي الأولى والثانية، ما هذا القرف والقذارة؟ شابّ يرتكب معصية سفاح القربى؟! لهذا لم أكمِل الرواية المرّة الأولى، ثم في المرّة الثانية أكملتها على مضض، وخرجت منه بتفسير لا يقلّ سذاجة عن التفسير إيّاه:

نعم ما حدث حقيقيّ، لقد واقَع الفتى شقيقته وأمّه، في أحلامه وفي واقعه. هؤلاء اليابانيون يؤمنون أن الأرواح تنتقل بعد الموت لوعاء آخر، لذلك انتقلت روح حبيب الآنسة ساييكي إلى كافكا، فهي في الحقيقة لم تواقع ابنها، بل واقعت روح حبيبها الميّت. كما أن روح كافكا انتقلت خلال نومه إلى شقيقته، وواقعها أيضاً. لذلك دائماً ما كانت تكرر عليه ساكورا قول: في الأحلام تبدأ المسؤولية. وهكذا، فسّرتُ باقي الرواية على هذا المنوال، والأشياء التي لم أفهمها تركتُها ولم أحاول تفسيرها.

الغريب في الأمر، أن هذا التفسير منتشرٌ لدى العديد من القرّاء، لكن لا يعدو عن كونِه تفسير ساذج سطحيّ ونظرة ضيّقة لرواية أكبر بكثير من أن يُنظَر إليها بهذه السطحيّة.

كافكا على الشاطئ

النظرية الثانية: الواقعية

لمَن يكره الفنتازيا والعوالم السريالية فربما هذا التفسير أكثر منطقيّة وواقعيّة إلّا أنه ينقصه بعض التفاصيل لملء الفراغات، ولكن لا بأس به:

ناكاتا أُصيبَ بصدمة قاسية في طفولته، هذه الصدمة تمثّلت في معلّمته التي ضربته ضرباً مبرحاً أمام الطلّاب، وحين سقط جميع الطلّاب مغشيّاً عليهم بسبب سلاحٍ كيماويٍّ ما، استفاق ناكاتا لا يذكر شيئاً بسبب الصدمة تلك. وبسبب فزعه من تلك الذكرى المؤذية، وكآليةٍ دفاعيّة من عقله أُصيبَ ناكاتا بالتوحّد. وهُيِّئ له أنه صار يملك القدرة على الحديث مع القطط، والقدرة على إنزال سمكٍ من السماء. مرّت سنينه برتابة، وحين وصل إلى اللحظة التي قتل فيها جوني ووكر/كيوتشي تامورا، استعاد ذاكرته. ولأنه يسكن في ذات الحيّ الذي سكن فيه كافكا، فهو يعلم بطريقة ما أن كافكا قد رحل إلى تاكاماتسو فيقوم باللحاق به.

كافكا من ناحية أخرى يهرب من منزله مُحمّلاً بثقل هذه النبوءة. لذا يحاول التخلّص منها بأي طريقة، لذا عندما يجد إحداهنّ تنطبق عليهن صفات الأخت وصفات الأم يقوم بمواقعتهما كي يغسِل روحه من هذا العبء الثقيل. تعزز فكرة هذه النظرية أن ساكورا ذكرت بأن لديها عائلة، كما أن ساكورا والآنسة ساييكي لا يعرفان بعضهما، ولم يذكر كافكا هذا الموضوع أمامهما أبداً. وفي النهاية، عندما يختبئ كافكا في الكوخ ويذهب إلى الغابة، ينام هناك ويحلم بتلك القرية والآنسة ساييكي وكل الأشياء التي حدثت معه. يتصالح مع ذاته ويقبل واقعه فيقرر العودة إلى حياته. أقصد أن كل شيءٍ حدث في رأس كافكا وحسب.

الآنسة ساييكي بدورها وجدت شبهاً بين حبيبها كافكا كوميورا وهذا الشاب كافكا تامورا، إذ كانت عاطفتها في ذروتها هي وحبيبها بنفس عمر كافكا الآن، لذلك كان الشبه كبيراً. كما أن الآنسة ساييكي امرأة خاوية، فحاولت يائسةً ملء فراغ قلبها بهذا الفتى ولكنّها فشلت في ذلك وأدّى إلى موتها في النهاية.

هذا التفسير هو تفسير واقعيّ بالطبع، لكنّه لا يفسّر بدقّة سقوط السمك من السماء، وهي حادثة رآها الجميع وكتبت عنها الصحافة، ولا يفسّر أيضاً وجود حجر المدخل وذلك الكائن الذي ليس بشراً ولا إلهاً ولا بوذا. مما يأخذنا إلى النظريّة الأخيرة:

 
كافكا على الشاطئ
 

النظرية الثالثة: العالم الموازي والسفر عبر الزمن بين العوالم

القارئ لأعمال موراكامي يُدرِك مدى محبّة الكاتب للكتابة بهذا الأسلوب السريالي، لقد كتب عالماً موازياً في روايته 1Q84 وفي مقتل الكومينداتور، وفي رواية رقص رقص رقص. إذاً من الأَوْلى أن يكتب بهذا الأسلوب في روايته الأشهر على الإطلاق.

في جميع أعمال موراكامي التي تتناول هذا الموضوع، تحدث ظاهرة غريبة لتنفتح بعدها البوّابة (حجر المدخل) المؤدية إلى العالم الموازي، والعالم الموازي هنا يشبه عالمنا الحقيقي تقريباً، لكنّه يختلف في بعض التفاصيل. (في ثلاثيّة 1Q84 العالم الموازي لديه قمرين اثنين) وربما هذه النظريّة تُفسّر جميع الغرائب في هذه الرواية، ما سأكتبه الآن هي نظريّة لم أقرأها من قبل في أيّ مكان، لذا ربما تكون نظريّتي الخاصة.

الآن، لدينا عالَمان. عالمٌ وقعت به الحرب العالميّة الثانية، وعالَم لم تقع فيه أيّة حروب. من الضروريّ تذكّر هذه المعلومة قبل الخوض في سير الأحداث:

ناكاتا طفلٌ طبيعيّ يعيش في عالمِنا الحقيقي، بينما كان في رحلةٍ مدرسيّة في غابات جزيرة شيكوكو أيّام الحرب، حدث شيءٌ ما وأُغميَ على جميع الطلّاب وناكاتا من ضمنهم، وحينما استيقظ وجد نفسه قد سافر إلى العالم الموازي، والتقى بأبوَيه الموازيان، لأن ناكاتا الموازي قد تلاشى في تلك الحادثة وظهر ناكاتا الحقيقيّ في العالم الموازي. وهذا يفسّر بالضبط لماذا لم يعد ناكاتا قادراً على الكتابة والقراءة: ببساطة لأن نظام الكتابة في العالم الموازي مختلف وغريب عن الحروف التي يعرفها ودرسها.

عاش ناكاتا حياته بشكلٍ رتيب، يتذكّر بعض الأحداث من العالم الحقيقي، ولكن كلّما صرّح لأحدٍ عن هذه الأحداث يظنّ أنه مجنون أو غبيّ، لذلك نجده دائماً ما يحكي عن نفسه: ناكاتا غبيّ جداً. في المشهد الذي قَتلَ فيه ناكاتا جوني ووكر، يقول ناكاتا: “أرجوك توقّف، إن لم تتوقّف فسيُجَنّ جنون ناكاتا. لم أعد أشعر بنفسي بعد الآن”. فيجيبه جوني وواكر مهكّماً: “شخصٌ لم يعد نفسه! لم تعد نفسك! تلك هي تذكرة العبور يا سيّد ناكاتا. رائع!” ودون أن ينطق بكلمةٍ أخرى، ينهض ناكاتا ويطعن جوني ووكر عدّة طعنات.

بسبب موت جوني ووكر حاصدُ الأرواح الذي يسافر بين العوالم، انفتح المدخل مرّة أخرى، وأحدث الأمر اختلالاً في موازين العالَمين، فبدأت الأسماك تهبط في كِلا العالمين. وفقد ناكاتا القدرة على التحدّث مع القطط لكنّه مازال في العالم الموازي، لذا كان عليه أن يسافر إلى تاكاماتسو (ذات المكان الذي انفتح فيه المدخل قبل سنوات)

في طريقه إلى تاكاماتسو يُصادف هوشينو، ناكاتا وهوشينو شكّلا ثنائياً غريباً وأحاديثهم لا تخلو من غرابة، فمثلاً يحدّثه عن قدرته على التحدّث مع القطط، وقدرته على إسقاط الأسماك من السماء، وعن كونِه غبيٌّ جداً وسبب هذا الغباء أنه في أيّام الحرب حينما احتلّت الولايات المتّحدة اليابان سقط مغشيّاً عليه بسبب شيءٍ ما وحين استفاق وجد أنّه قد صار غبيّاً. يستغرب هوشينو: حرب؟ عن أي حرب تتحدّث؟ لم تحتلّ الولايات المتّحدة اليابان أبداً!

هذا الحوار يتكرّر تقريباً ثلاثة مرّات، وفي كل المرّات يستغرب هوشينو: “عن أي حرب تتحدّث!” فيجيبه ناكاتا دائماً: “المعذرة، أنا غبيّ جداً”. لا يعرف أيّ حرب لأن هوشينو من سكّان العالم الموازي، العالم الذي لم تقع فيه حربٌ أصلاً!

لكن ما الذي حدث؟ من الذي فتح بوّابة العالم الموازي أولاً؟

الآنسة ساييكي هي أول من فتح المدخل في غابة شيكوكو، وتصادف أنها ذات الغابة التي تواجد بها ناكاتا في العالم الحقيقيّ، لذلك انتقل ناكاتا إلى العالم الموازي وانتقلت ساييكي إلى العالم الحقيقيّ وذلك محاولةً منها لإيجاد نسخة حبيبها الذي قُتِل. حبيب الآنسة ساييكي بالمناسبة لم يُقتل بسبب الحرب، بل في الجامعة إثر شجارٍ بين الطلّاب، أصلاً لم يكن هناك حرب، لأن الآنسة ساييكي عاشت في العالم الموازي الخالي من الحروب.

السحليّة حيوان يستطيع التكيّف مع بيئته المحيطة، وقد ورد ذكر السحليّة في كلمات أغنية كافكا على الشاطئ، وورد ذكرها على لسان كافكا الذي وصف نفسه بأنه سحلية. لكن في الحقيقة، أرى أن السحليّة الحقيقيّة هي الآنسة ساييكي التي استطاعت السفر عبر العوالم وتكيّفت في كِلا العالَمين. على كل حال، وجدت الآنسة ساييكي حبيبها في العالم الحقيقي، وعاشت معه عشرين سنة قبل أن يموت أو تنفصل عنه (وهذا يفسّر اختفاءها طيلة تلك المدّة التي لم يعرف عنها أحد شيئاً)

السفر بين العوالِم أكسَب كلّاً من ناكاتا وساييكي أنصاف الظلال، وأخلّ باتزان العالم، لذا كان على المخلوق الغريب أن يُعيد للعالم توازته ثمّ يقوم هوشينو بقتله. الآنسة ساييكي عقدت صفقة مع هذا المخلوق، ليس بشراً ولا إلهاً ولا بوذا، هذا المخلوق هو المسؤول عن اتّزان العالَمين، وكانت تعرف أنها ستدفع الفاتورة عاجلاً أم آجلاً، وهذه الفاتورة ستكون بأن يقوم ناكاتا (الفتى المظلوم الذي رحل من عالمه على حين غرّة) بإنهاء حياتها.

اقتباس من كافكا على الشاطئ

ما يعزّز هذه النظريّة أيضاً، أن الصحافة لم تتحدّث أبداً عن جوني ووكر/كيوتشي تامورا، لم تتحدّث عن هوسه في قتل القطط ولا عن خزانة رؤوس القطط التي يحتفظ بها كذكرى. هل يعقل شيءٌ مثل هذا لا تتحدّث بها الصحافة ولا الشرطة؟

هذا بسبب أن ناكاتا قتل رجلين بذات الوقت عندما اختلّ العالمين واندمجا لبعض الوقت، لقد قام بقتل كيوتشي تامورا النحّات الطبيعي، وجوني ووكر النحات القاتل من العالم الموازي. ثمّ حين وصل ناكاتا إلى تاكاماتسو و لما هبّت العاصفة وانفتح المدخل مرّة أخرى استطاع السفر إلى العالم الحقيقي والتقاء الآنسة ساييكي فيه وإعادتها لعالمها الموازي.

وفي المواجهة الأخيرة، يموت ناكاتا ويقوم هوشينو بإغلاق حجر المدخل. لكنّه يُسافر إلى العالم الحقيقي بدوره. ويصير لديه القدرة على الحديث مع القطط! لأنه صار مسافراً بين العوالم مثل ناكاتا بالضبط!

اقتباس من كافكا على الشاطئ

وأخيراً، تنتهي القصّة بإدراك كافكا أنه قد صار في عالم مختلف تماماً عن الذي يعرفه، وهنا نستطيع استحضار المعنى الفلسفيّ آنف الذكر، أو المعنى السرياليّ وهو أن كافكا قد سافر بين العوالم هو بدوره.

كافكا على الشاطئ

ربما يكون كل ما ذكرته صحيحاً .. وربما يكون كل ما ذكرته خاطئاً ومجرد هلوسات شخصٍ يتسلَّى بملئ الفراغات لأمور يُحبها.

لكن بالتأكيد، وبعد كل هذا الكلام، هذه الرواية تستحق التقييم الكامل، ولا يجب أن يفوّتها أحد. لا أعرف إن كنتُ قد نسيت تفاصيل أخرى، أو غاب عنّي شيء ما، لكني ابتدأت الكتابة بهدف إنصافِ هذه الرواية، ووجدت نفسي أكتب ما يشبه الـwiki موسوعة كاملة خاصّة بها، وأعتقد أنني أنصفتها فعلاً.

 
اشتراك
إشعار إلى
guest
3 Comments
الأقدم
الأحدث الأعلى تصويتاً
تعليقات مضمنة
رؤية جميع التعليقات
e
e
أكتوبر 16, 2022 5:57 م

اغنية كافكا على الشاطئ مترجمة
https://www.youtube.com/watch?v=W8kgPq1G5oc

reemaz1999
reemaz1999
يناير 30, 2023 4:39 م

‎اعجبني جداً سردك للرواية و النظريات التي طرحتها لقد قرأتها وهي اول رواية أقرأها للكاتب هاروكي موراكامي حقاً لقد ابهرني اسلوبه اشعر و كأنه يسرد حلماً سريالياً طويلاً لا يمكنك ان تقيمه اشعر انه فوق التقييم ولكن اكثر ما ازعجني هو الوصف المزعج و المبالغة في سرد تفاصيل الجنسية حقاً اثارت اشمئزازي .. ايضاً عندما انهيته لقد كنت اظن بأن كافكا هو الذي قتل ابوه خصوصاً ان كافكا استيقظ في الغابة وهو غارقاً بالدم و ان ناكاتا هو تجسيد لشخصية كافكا في عالم موازي خصوصاً ان اليابانيين يأمنوا بتناسخ الأرواح ان ناكاتا وكل لمهمة قتل جوني واكر و كافكا بسبب عقدة اوديب وجد انه مجبراً على قتل والده في كل عالم وجدت نفس الشخصيات كافكا- ووالده النحات المشهور ناكاتا-جوني واكر لمقابلة نفس المصائر لتحقيق الأتزان للعوالم و من بعدها يتم اقفال حجر المدخل

Nihal
Nihal
مارس 6, 2025 11:23 ص

الحقيقة هذه واحدة من أجمل التحليلات التي قرأتها عن الرواية على الإطلاق
شكراً لك عبد الرحمن

تواصل معي

لأن كل مشروع عظيم يبدأ برسالة، أرسلها الآن، وسأقوم بالرد عليك بأسرع وقت.