التصميم

معنى أن تكون مصمِّماً

ليس أمامك إلَّا شاشة بيضاء، لا تحمل قلماً وليس لديك فكرة عمَّا تريد فعله بعد .. تصميم جديد؟ مشروع آخر؟ يا لها من متعة لا يُدرك كنهها إلا من مارسها .. تشعر الآن وكأنك تقف على خشبة مسرح قبل رفع الستار، وكأن العالم كله ينتظر منك معجزة ما. ثُمَّ تبتسم لأنك وحدك من يرى احتمالات لا يراها أحد. كل مرة تبدأ فيها تصميمًا، تبدأ حياة جديدة، تفتح بابًا على عالم لا يشبه سابقه.

المصمِّم ليس مجرد صانع أشكال وزخارف وألوان، بل هو ذلك العابر بين الفنون والحرف، شاعرٌ حين يحتاج العالم لقصيدة، وحرفيّ حين تتطلب الفكرة يدًا خشنة، وفيلسوف حين يطلب العميل إجابةً لسؤالٍ لم يُطرح بعد.

أن تكون مصممًا يعني أن تمسك فكرة هاربةً من نوم أحدهم، ثم تحبسها داخل شكلٍ وألوان، ثم تمنحها نبضًا تستطيع أن تتحدث به دون أن تحتاج حنجرة. صحيح أنَّ التصميم لغةٌ لا تُحكى، لكنه يُقنعك بأن تصدِّقه، يشرح لك ما عجز صاحبه عن شرحه بالكلمات.

أن تكون مصممًا يعني أن تجلس قبالة العميل مثل منقّب آثار، تفتش في طبقات صوته، في عينيه حين يتحدث عن مشروعه وكأنه يروي سرًا شخصيًا لم يعترف به من قبل. هو لا يريد شكلاً جميلاً فقط، بل يريد أن يرى وجهه في تصميمك، أن يعثر في التفاصيل على ما لم يقله لأحد. وأنت؟ أنت أداة استشعار تلتقط ما لم يُقال.

أن تكون مصممًا يعني أن تعيش حيوات لا تخصك. اليوم طبَّاخ يبحث عن مذاق بصري لطبقه الشهيِّ، وغدًا مهندس يحاول اختزال الخرسانة في خطٍ بسيط، وبعده متطوع في حملة إنسانية يمنح الألم وجهًا قابلًا للنشر. كل مرة تصمم فيها، أنت شخص آخر، تتقمص، تنسى لونك المفضل، تتخلى عن توقيعك الشخصي، وتصبح مرآةً لما يريد الآخرون أن يكونوا عليه.

أن تكون مصممًا يعني أن تقف في قلب فوضى الأفكار مثل قائد أوركسترا، كلُّ آلة فيها تمثِّل صوتًا من أصوات المشروع: صوت العميل المرتبك، صوت السوق المتّطلِّب، صوت الفكرة الخام، صوت الهوية التي لم تُخلق بعد، وصوت ذاك الإلهام العابر الذي يزورك دون موعد. وظيفتك ليست أن تطرب الجميع، بل أن تصنع من هذا الضجيج سيمفونية مفهومة، أن تجعل كل نغمة تلتقي بالأخرى دون أن تفقد بريقها، أن تمنح المساحات صمتها اللائق، وأن تمنح الألوان حقها في الصراخ أو الهمس.

أنت لا تصمم وحيدًا، ولو جلست أمام شاشتك وحدك. أصابعك تتحرك، لكن وراءها جوقة كاملة من الأصوات، بعضها تعرفه وبعضها خفيِّ، وكل قرار تتخذه هو في جوهره اختيار إيقاعي: هل ترفع حدة اللون؟ هل تبطِّئ إيقاع الخطوط؟ هل تمنح الهوية نغمة كلاسيكية أم تُغامر معها بموسيقى إلكترونية غير متوقعة؟

أن تكون مصممًا يعني أن تعبر بين العوالم المختلفة كمسافر لا يعرف الاستقرار، تتنقل بين مشاريع لا تمتُّ لبعضها بصِلَة، فتكون اليوم في عالم العلامات التجارية الفاخرة، وغدًا في مشروع خيريٍّ يضيء قلوب الناس، وبعده وسط تصاميم صاخبة لمطعمٍ شهير. تصمم لشركة عقارية ترى العالم أرقامًا ومساحات، ثم تنتقل إلى متجر صغير للحلويات، حيث الألوان تنطق بالنكهة، فتدرك حينها أنك لا تعمل فقط مع التصميم، بل مع الحياة بكل تناقضاتها وتفاصيلها الصغيرة.

أن تكون مصممًا يعني أن تكون مرآةً لغيرك، لا تفرض لونك المفضل، ولا تملي رؤيتك الخاصة، بل تغوص في شخصياتهم، تحاكي أفكارهم، ثم تخرج لهم بأجمل صورة تعبر عنهم، لا عنك. العملاء لا يشبهون بعضهم، أحدهم يريد الفخامة، وآخر يطلب الجرأة، وثالث يبحث عن البساطة، وأنت تتنقل بينهم كفنان يرسم بكل الألوان، ولا يقف عند لون واحد.

أن تكون مصممًا يعني أن تمتلك عينًا ترى ما لا يراه الآخرون، أن تلتقط التفاصيل التي تبدو عادية للناس لكنها تصنع الفرق، أن تدرك كيف يمكن لخط رفيع أو ظلٍّ خفيف أن يغير الإحساس بالكامل. أن تكون مصممًا يعني أن تعيش في عالم لا نهائي من الاحتمالات. أن تكون مصمماً يعني أن تحب ما تفعل، حتى عندما يتعبك، حتى عندما تعيد التصميم عشرات المرات، وحتى عندما لا يفهم البعض كم من الخبرة سكبت في تلك الخطوط والألوان. 

أن تكون مصمماً يعني أن تعرف أن السحر الحقيقي لا يظهر إلا لمن يملك الصبر والحب الكافي ليستمر في البحث عنه.

اشتراك
إشعار إلى
guest
0 Comments
الأقدم
الأحدث الأعلى تصويتاً
تعليقات مضمنة
رؤية جميع التعليقات

تواصل معي

لأن كل مشروع عظيم يبدأ برسالة، أرسلها الآن، وسأقوم بالرد عليك بأسرع وقت.