الخط العربي الصيني

اكتشفتُ الخط العربي الصيني أو ما يُعرَف بـ (Sini Script) مصادفةً أثناء عملي على مشروع خاص لأحد عملائي. كانت الفكرة التي أعمل عليها آنذاك أن أصِل لخطِّ عربي واضح ومعقَّد في ذات الوقت وغير تقليدي أيضاً وذلك بهدف إيصال رسالة المنظَّمة التي كنت أصمم هوية بصرية لصالحها. قادني فضولي للغوص في مساحات بعيدة من التاريخ والثقافات الشرقية، لأجد نفسي فجأة أمام نظام كتابة مدهش لم أكن قد سمعت به من قبل. الحروف عربيةٌ بشكلٍ واضح، لكنها تتشابك وتتراقص كأنها رموز صينية تقليدية. أثار هذا المزيج الغريب من ثقافتين منفصلتين تماماً دهشتي، فبدأتُ البحث لأكتشف أن ما وجدته يحمل اسمًا مميزًا: “شِيَاو عَر جِينغ” (Xiao’erjing)، أي الكتابة العربية الصينية.

أكثر ما أثار اهتمامي حقيقةً هو إيجادي لمخطوطة آية الكرسي بالطريقة الصينية. نعم للوهلة الأولى ستحب أنك ترى رموزاً صينية، لكن عندما تدقق النظر ستُدرك أنها حروف عربيَّة .. وهذا بالضبط ما كنت أبحث عنه لتقديمه للعميل .. وما بدا لي في البداية مجرد مصادفة بصرية جميلة، سرعان ما تحوّل إلى بحثٍ مُعمَّق حول جذور هذه الطريقة اكتشفت من خلالها عمقاً ثقافياً وإنسانياً نادراً. لذا أكتب هذا المقال اليوم لأسلط الضوء على قصة وتاريخ هذا النظام الكتابي، وأهميته التاريخية والثقافية التي قد تكون مجهولة للكثيرين منّا.

آية الكرسي بالخط العربي الصيني، للخطّاط الحاج نور الدين مي غوانغ جيانغ (مصدر الصورة)

ظهرت الكتابة العربية الصينية، أو كما تُعرف بالصينية “شِيَاو عَر جِينغ” (Xiao’erjing)، في فترة مبكرة نسبيًا بعد وصول الإسلام إلى الصين، تحديداً في عهد سلالة مينغ (Ming Dynasty) بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر ميلاديًا. كانت هذه الكتابة نتيجةً مباشرةً لاحتياجات المسلمين الصينيين (خاصةً قومية هُوي Hui) الذين واجهوا تحديًا كبيرًا في قراءة النصوص الإسلامية المكتوبة باللغة العربية، خاصة القرآن الكريم، وذلك لعدم إتقانهم للعربية بشكل كافٍ.

وفقًا للباحث جوناثان ليبمان (Jonathan Lipman)، فقد سعى المسلمون في الصين لخلق جسر ثقافي ولغوي، يمكّنهم من الحفاظ على هويتهم الدينية في بيئة صينية بالكامل، ومن هنا نشأت فكرة كتابة اللغة الصينية بالحروف العربية. قاموا بكتابة نصوصهم الدينية والأدعية، وأحيانًا النصوص اليومية، باستخدام الأبجدية العربية، مع بعض التعديلات الطفيفة لتتناسب مع أصوات اللغة الصينية، ما خلق نظامًا فريدًا من نوعه يعكس تداخلًا واضحًا بين الثقافتين.

كانت الكتابة العربية-الصينية منتشرة بشكل أساسي في شمال غرب الصين، في مناطق كثيفة بالمسلمين مثل مقاطعات قانسو ونينغشيا وشانشي، بالإضافة إلى قومية الدونغان، وهم المسلمون الذين هاجروا لاحقًا إلى آسيا الوسطى. استمرت هذه الكتابة في الاستخدام لعدة قرون، خاصة في الأوساط التعليمية الدينية وبين العلماء المسلمين الصينيين. وقد لعبت دوراً بارزاً في تعليم القرآن الكريم والفقه الإسلامي، حيث تُرجمت النصوص الدينية العربية إلى اللغة الصينية، ولكن باستخدام حروف عربية معدّلة قليلًا.

تُشير المصادر الصينية الحديثة (مثل جين يي جيو Jin Yijiu في دراسته “A Brief Discussion of Xiao’erjing”) إلى أن أوج ازدهار هذه الكتابة كان بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر. لكن مع ظهور التعليم الرسمي الحديث في بدايات القرن العشرين، والسياسات اللغوية والثقافية التي تبنّتها الصين، تراجع استخدام هذه الطريقة الكتابية تدريجياً، وانحصر في نطاقات تعليمية محدودة أو في أوساط ثقافية ضيقة، مما دفعها لأن تصبح أقرب إلى التراث الثقافي منها إلى الممارسة اليومية المعتادة.

سورة الفاتحة بالخط العربي الصيني

سورة الفاتحة بالخط العربي الصيني، للخطّاط الحاج نور الدين مي غوانغ جيانغ (مصدر الصورة)

في المقابل، ظهر نظام كتابة آخر عُرف بالخطِّ العربي الصيني، يعود تاريخ نشأته إلى الفترات الأولى من وصول الإسلام إلى الصين خلال عهد سلالة تانغ (Tang Dynasty) في القرن السابع الميلادي، حيث بدأ التجار المسلمون والعلماء والدبلوماسيون القادمون من العالم الإسلامي بالتفاعل مع الثقافة الصينية. ومع ازدياد أعداد المسلمين الصينيين، خصوصًا من قومية هوي (Hui)، نشأت الحاجة إلى تطوير أسلوب فني للخط العربي يعكس الهوية الإسلامية داخل السياق الثقافي الصيني.

خلال فترة سلالة يوان (Yuan Dynasty) (1271-1368 م)، التي حكمت الصين تحت سيطرة المغول، انتعش الفن الإسلامي في الصين، مما ساعد في تطور الخط العربي الصيني ليصبح أسلوبًا مميزًا في كتابة النصوص الدينية الإسلامية. تأثر الخطاطون المسلمون في الصين بالأسلوب الانسيابي للخط العربي التقليدي، لكنهم دمجوا فيه العناصر البصرية والخطية الخاصة بالخط الصيني التقليدي، مما أنتج خطًا فريدًا يمزج بين نعومة الحروف العربية وانحناءات وضربات الفرشاة الصينية.

في العصور اللاحقة، خاصة خلال حكم سلالة مينغ (Ming Dynasty) (1368-1644 م) وسلالة تشينغ (Qing Dynasty) (1644-1912 م)، أصبح الخط العربي الصيني جزءًا أساسيًا من الفن الإسلامي في الصين، واستُخدم على نطاق واسع في زخرفة المساجد، كتابة المصاحف، وتصميم المخطوطات الإسلامية. كان الخطاطون الصينيون المسلمون يبتكرون أشكالًا زخرفية معقدة، حيث أضافوا زخارف نباتية، وأنماطًا هندسية مستوحاة من الفن الصيني التقليدي، مما أعطى الخط العربي في الصين طابعًا فريدًا لا يوجد في أي مكان آخر في العالم الإسلامي.

اليوم، لا يزال الخطي الخط الصيني يُستخدم في المساجد الصينية، خاصة في مناطق مثل شينجيانغ، نينغشيا، وقانسو، حيث يعيش عدد كبير من المسلمين الصينيين. كما أنه يُدرّس في بعض المعاهد الإسلامية في الصين للحفاظ على هذا الفن العريق، رغم تراجعه أمام الخطوط العربية الأكثر شيوعًا مثل الثلث والنسخ والديواني.

البسملة بالخط العربي الصيني

البسملة بالخط العربي الصيني، للخطّاط نور الدين مي غوانغ جيانغ (مصدر الصورة)

الحمد لله بالخط العربي الصيني

عبارة “الحمد لله” بالخط العربي الصيني، للخطّاط يوسف تشن جينهوي (مصدر الصورة)

"وما توفيقي إلا بالله" بالخط العربي الصيني

عبارة “وما توفيقي إلا بالله” بالخط العربي الصيني، للخطّاط نور الدين مي غوانغ جيانغ (مصدر الصورة)

كمصمم جرافيك، التعرف على مثل هذه الأنظمة الكتابية غير التقليدية ليس مجرد هواية، بل هو مصدر غني للإلهام والإبداع. إذ يتيح لنا اكتساب رؤىً جديدة تساعد في ابتكار مفاهيم بصرية عميقة وقادرة على سرد قصص ثقافية وإنسانية مؤثرة. كما أن القدرة على توظيف رموز من حضارات وثقافات مختلفة في التصاميم يُثري الأعمال، ويمنحها عمقًا يتجاوز الشكل الجمالي إلى خلق لغة بصرية متكاملة قادرة على مخاطبة مشاعر المشاهد وعقله على حد سواء. بالإضافة إلى ذلك، فاستكشاف نظام مثل الخط العربي الصيني يمنح المصممين تجربةً فنية وثقافية ممتعة، ويوسّع من آفاق معرفتهم، وهو ما يجعل من التصميم عملية اكتشاف مستمر، وليس مجرد ممارسة حرفية فقط.

المراجع:

  • Lipman, J. N. (1997). Familiar strangers: A history of Muslims in Northwest China. University of Washington Press.
  • Dillon, M. (1999). China’s Muslim Hui community: Migration, settlement, and sects. Curzon Press.
  • Gladney, D. C. (1996). Muslim Chinese: Ethnic nationalism in the People’s Republic. Harvard University Press.
  • Jin, Y. (1981). A brief discussion of Xiao’erjing: The Arabic script for Chinese (Trans.). Institute of Minority Languages, Chinese Academy of Social Sciences, Beijing.
  • Israeli, R. (1980). Muslims in China: A study in cultural confrontation. Curzon Press.
  • مقال في موقع Omnoglot.
  • موقع الخطاط الصيني نور الدين مي غوانغ جيانغ.
  • مدونة الباحث مؤنس البخاري.
اشتراك
إشعار إلى
guest
0 Comments
الأقدم
الأحدث الأعلى تصويتاً
تعليقات مضمنة
رؤية جميع التعليقات

تواصل معي

لأن كل مشروع عظيم يبدأ برسالة، أرسلها الآن، وسأقوم بالرد عليك بأسرع وقت.