هاروكي موراكامي

هاروكي موراكامي: الكاتب الذي توقّف عن لفّ زنبركه

الكثير من القُرّاء ومواقع النقد الأدبية يًصنّفون رواية “يوميات طائر الزنبرك” على أنَّها أفضل عمل لـ موراكامي، أو على الأقل من بين الثلاثة الأولى. لكن بصفتي شخص قرأ كل رواياته المُترجمة إلى العربيّة والتي اختتمتها بهذه اليوميات، فإنني أجد هذه الرواية أقل وأسوأ عمل له مقارنة بنظيراتها أعماله الطوال التي تفوق عدد صفحاتها عن الـ500 صفحة.

دعونا نتَّفق على أمر في البداية: موراكامي لا يُقارن إلّا بنفسه، وقد نقَل الأدب العجائبي السريالي إلى مستوى آخر تماماً، لديه أسلوب متفرّد في السرد تعبث في النفس الإنسانية بعذوبة (في الحقيقة لا يوجد شيء اسمه “عبث عذب”، فالعبث لا يكون عذباً في أيّ صورة، لكن موراكامي فعلها!) وشخصيّات معقدة تلمس أعمق نقطةٍ فينا، وعوالم ساحرة، وكائنات غامضة، وموسيقى أخّاذة، وقطط هنا وهناك .. ومواضيع معينة مؤطّرة لا يخرج عنها أبداً .. وهذا بالضبط ما جعلني أشعر بمللٍ مميت خلال قرائتي لهذه الرواية.

يوميات طائر الزنبرك رواية فارغة. لا شخصيّات ولا حبكة مثيرة للاهتمام، مع عالم رتيب مُعتَاد من موراكامي وأسلوب متكرر ظهر على الأقل في 4 من أعماله الأخرى. ولأجل هذا بالضبط شعرت بالملل، لأنني تشبّعت من أعماله وصرت أراها كلها متشابهة. مما جعلني أتيقّن أن الزنبرك (شيطان الإبداع) في مخيال موراكامي قد توقّف عن الدوران. لذلك، أنا ناقم على هذه الرواية، ولهذا سوف أسرد المواضيع الأدبية التي أوردها في هذه الرواية والتي جعلت منها رواية مملّة، وبطبيعة الحال سيكون هناك حرق لكل أعماله موراكامي التي سأوردها في المقالة.

أسلوب هاروكي موراكامي الأدبي

الطوائف الدينية

يتجنّب موراكامي الحديث عن الدين عموماً، لكنّه يخلق أدياناً جديدة في عوالمه بدلاً من التحدّث عن الأمر الأكثر منطقية: وهو وجود خالقٍ لهذا العالم. هناك مشكلة شخصيّة واضحة بين موراكامي والدين، من الواضح أولاً أن كاتبنا العظيم مُلحِد، لكنه بنفس الوقت يُدرِك ضرورة الجانب الروحيّ للإنسان، لذلك يحاول ملء الفراغ الروحي لشخصيّاته عبر طوائف دينية باطنية كشيء مشابه لما يُعرف بـ حركة العصر الجديد، الأسلوب الأدبي الديني تكرر في عدد من رواياته: رقص رقص رقص، ثلاثية 1Q84 التي أنشئ فيها ديناً جديداً له رسله وأتباعه (شرحت الفكرة بالكامل هنا)، وأخيراً وردت في يوميات طائر الزنبرك.

نتبيّن في الكتاب الثالث أن البطل تورو أوكادا هو نبي لهذه الديانة الجديدة خلفاً لـ جوزة الطيب، نبي له أتباع ولديه معجزات حيث يقوم بشراء البيت المهجور ويكون مقرّاً بمثابة دعوة سريّة لهذا الدين، يقوم هذا النبي بعمل رُقية للأشخاص المتعبين حتّى يريحهم، طبعاً لا تُسمّي الرواية هذا الفعل باسم “رقيَة” لكن الفعل الذي يقوم به تورو مشابه تماماً للرقية الشرعية في الإسلام. كما أن تورو لديه حواريّ (ابن جوزة الطيب) يقوم بكتابة سيرة حياته ليصدره فيها بعد بمثابة كتابٍ مُقدّس، ولديه علامة على خدّه هي بمثابة خاتم النبوّة أيضاً.

أي نعم كما كتبتُ بالضبط! أفكار دينيّة شاذة جداً يمتلكها موراكامي ويُكررها في عددٍ من رواياته حتّى صار الموضوع مملاً .. بل مقرفاً!

رواية 1Q84

العوالم الموازية والواقعية السحريّة والبوّابات الخفيّة

العوالم الموازية والأحداث الغريبة هي جزء لا يتجزّأ من أسلوب موراكامي الأدبي، وفي غالبيّة رواياته الطويلة ظهرت هذه العوالم بشكلٍ أو بآخر، فقد ظهرت في: كافكا على الشاطئ، وفي ثلاثية 1Q84، وفي أرض العجائب القاسية ونهاية العالم، وأخيراً في يوميات طائر الزنبرك.

في كل رواية، يجب أن تكون الشخصيّة في مكانٍ أو تعبر مكاناً معيّناً حتى تتمكّن من فتح بوابة العالم الموازي، في كافكا على الشاطئ يبحث السيّد ناكاتا عن حجر المدخل للدخول للعالم الموازي ويعبر كافكا غابةً للوصول للعالم الآخر، وفي 1Q84 تنزل أومامه سُلّماً بعد اختناق مروريّ يُجبرها على تغيير مسارها فتدخل العالم الموازي تلقائياً، وفي مقتل الكومنداتور ينزل في البطل إلى حفرة ويحبس نفسه فيه، الأمر مشابه تماماً في طائر الزنبرك حيث ينزل تورو إلى بئر ليستيقظ في العالم الموازي أيضاً.

العوالم الموازية تشبه واقعنا إلى حدّ كبير، غير أنه دائماً ما يحدث مع البطل أمور غريبة يدرك من خلالها أنه في عالم موازٍ، فمثلاً في كافكا على الشاطئ هناك سمك يسقط من السماء، وفي 1Q84 يتدلى قمرين في السماء، وفي طائر الزنبرك هناك مسألة اختفاء وظهور القطّ. موراكامي عُرِف بالسريالية، ولو أنّه لم يُدخِل أبطاله في عوالم موازية لما كان أسلوب موراكامي نفسه الذي عرفناه، هذا شيء يميّز موراكامي طبعاً ولا يمكنني إنكار أن تلك العوالم التي يأخذنا إليها عوالم ساحرة ومدهشة، لكنّ طريقة تكرارها في أعماله أفقدت القرّاء هذه الدهشة.

أحياناُ قد تكون هذه العوالم عوالم مجازيّة في داخل عقل بطل القصّة إذا ما أردنا تفسير قصصه بواقعيّة كما حدث في مقتل الكومنداتور، لكن ما أراه أنه يمكننا في الحقيقة القول أن عوالم موراكامي تنقسم إلى ثلاث: العالم الواقعي، العالم الموازي، عالم الأحلام. وهذا ينقلنا إلى الموضوع المتكرر الثالث:

الأحلام

هناك كلمة تتكرّر دائماً في روايات موراكامي سواءً بشكلٍ حرفيّ أو مجازاً يؤدّي لنفس المعنى: “في الأحلام تبدأ المسؤولية”. هذه الجملة وردت في كافكا على الشاطئ، وتعني باختصار: أيّ حدثٍ يقع في عالم الأحلام فقد وقعَ بشكل حقيقي في عالم الشخصيّة سواء أكان في عالمها الواقعي أو عالمها الموازي. فمثلاً في كافكا على الشاطئ يمارس الفتى المدعو كرو الجنس مع والدته وأخته يستيقظ وهو مؤمن بأنّه قد مارسه في الواقع الحقيقي، كما أنّه يحلم بقتل أباه وعندما يستيقظ يجد بقع الدم على قميصه. وفي ثلاثية 1Q84 يحلم تنغو بممارسة الحب مع أومامه رغم أنّه لم يلتقي بها منذ 15 سنة، لكن بعد عدة شهور ينتفخ بطن أومامه وتصير حامل بسبب حلم تنغو.

لا يختلف الأمر أبداً في يوميات الزنبرك، حيث أن لدينا شخصيّة العاهرة كريتا كانو التي “كانت عاهرة جسد، وأصبحت عاهرة عقل” كما وُصِفَت في الرواية تماماً، حيث أنّ تورو أوكادا حلُم واحتلم بها وعندما استيقظ علِم أن هذا الأمر قد وقع في الحقيقة وليس عالم الأحلام، رغم عدم ظهور كريتا كانو في ذلك اليوم.

في الحقيقة، فإن عالم الأحلام لدى موراكامي مرتبط بشكل كبير في واقعه، فقد قرأت لقاءً له مرّة يقول فيه بما معناه: “بالنسبة لي، فإن كتابة رواية يشبه الحلم. كتابة رواية تتيح لي أن أحلم عن قصد في حين مازلت مستيقظًا. يمكنني أن أكمل حلم الأمس هذا اليوم، وهو شيء لا يمكنك فعله عادةً في الواقع، وهذه طريقة أيضاً للولوج إلى أعماق وعيي الخاص”. وفي كتابه الأخير الذي صدر في العربية ما أتحدث عنه حين أجري، قال موراكامي فيه أنه يبدأ بكتابة الرواية دون معرفة النهاية، وهذا شيء يُشبه الحلم بالفعل، وشيء يشبه شخصيّاته .. فلو نظرنا لشخصيّاته باعتبار أن جميع الأحداث تحدث داخل عقولهم وحسب لاستطعنا تقبّل الكثير من الأفكار والأحداث الغير منطقية.

في العديد من أعماله نرى أن الشخصيات تواجه كيانات من الواضح أنه لا يُقصد بها أن يكونوا أشخاصاً حقيقيين، مثل جوني ووكر والكولونيل ساندرز في كافكا على الشاطئ، اللوحة المتحرّكة في مقتل الكومنداتور، الرجل عديم الوجه والمرأة على الهاتف في يوميات طائر الزنبرك. وغيرها الكثير من الأنماط المتكررة في جميع رواياته. أعتقد أن هذه الكيانات تخدم موضوع الأحلام بالدرجة الأولى وما تحدّث عنه: الولوج إلى أعماق وعي الشخصيّات. كما تهدف المواجهات الغريبة لتلك الكيانات إلى طريقة تعامل البطل مع الظروف المختلفة في حياته.

الحرب العالمية واليابان

الحرب موضوع رئيسي في أعمال موراكامي، وهو أكثر موضوع ممل ومتكرر في أعماله. رواية مقتل الكومنداتور تدور حول الحرب بشكلٍ رئيسي، وأذكر أنني حين قرأتها قمت بتجاوز كثير من الصفحات التي لا تعنيني. وأكثر شيء جعل طائر الزنبرك مملاً هو الحرب. هناك على الأقل 300 صفحة تحكي عن الحرب وحسب، عن معركة منشوريا والحرب اليابانية الروسية، وهي أحداث غير مهمة بتاتاً للرواية وكل ما تفعله هو زيادة عدد الصفحات فقط لا غير. هناك 300 صفحة لم أقرأها من طائر الزنبرك ومع ذلك وصلتني الرواية بشكل كامل.

متاهة هاروكي موراكامي

الفردانية والعزلة

عندما يحكي موراكامي عن النفس الإنسانيّة فهو يحكي عنّي وعنكَ وعنكِ وعن الجميع، لابدّ أن تلمِسَ شخصيّاته شيئاً ما فينا، لهذا -شخصيّاً- أحب موراكامي، وأعتقد أنه محبوب لذى القرّاء لهذا السبب أيضاً. هناك نوعٌ من الدفء الجميل الذي نتحسّسه في داخلنا كلّما قرأنا رحلة كافكا ومتاهته داخل نفسه، أو عندما نقرأ مشاعر الفقد المؤلم لدى واتانابي في الغابة النرويجيّة، أو الاشتياق الحادّ لدى تنغو لنصفه الآخر أومامه، أو حالة الضياع التي يعيشها تورو بعد رحيل زوجته عنه.

هذه المشاعر الإنسانيّة السامية هي أجمل شيءٍ في أعمال موراكامي ولا يمكن الملل منها أبداً. لكن، ومع ذلك، فإنّ تكرارها في كلّ رواياته دليلٌ على نضوب أفكار الكاتب واضمحلالها شيئاً فشيئاً، وتوقّف زنبرك الإبداع عند الكاتب.

الخلاصة

هاروكي موراكامي كاتبٌ متميّز بأسلوب متفرّد، لكنني بعد أن تشبّعت أفكاره أستطيع أن أقترح على القارئ قراءة ثلاث روايات وحسب سوف تغنيه عن جميع أعماله، فموراكامي وضع خلاصَة وسلافَة أفكاره في هذه الروايات الثلاث وجميع ما يرد في أعماله الباقية هي مجرّد نسخ ولصق وإعادة ترتيب لهذه الأفكار نفسها. وحتّى لو كتب موراكامي المزيد من الروايات فهي لن تخرج عن هذه الأفكار التي صارت تؤطّر أعماله أيّاً ما كانت. هذه الروايات هي: الغابة النرويجية، وكافكا على الشاطئ، وثلاثية 1Q48.

اشتراك
إشعار إلى
guest
0 Comments
الأقدم
الأحدث الأعلى تصويتاً
تعليقات مضمنة
رؤية جميع التعليقات

تواصل معي

لأن كل مشروع عظيم يبدأ برسالة، أرسلها الآن، وسأقوم بالرد عليك بأسرع وقت.