تيل أولنشبيغل

جحا الأوروبي .. تيل أولنشبيغل

أستطيع تلخيص هذه الرواية بجملة واحدة: هذه الرواية فنتازيَّة عبثيَّة، وأنا أحب الفنتازيا والعبث.

تتبَّع الرواية مسار حياة تيل أولنشبيغل المُهرِّج المخادع المتجوِّل مع فرقته في الأرياف الأوروبيَّة في القرن السابع عشر التي كانت تُعاني من حرب الثلاثين عاماً بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة البروستانتية التي استمرت -للصدفة- ثلاثين عاماً. لكن عندما تُقرأ الرواية لوحدها بدون الإطِّلاع على سياقها التاريخي، ستكون الكثير من الأحداث غير مفهومة بالنسبة للقارئ، رغم أنَّها ليست رواية تاريخيَّة محضة، لكنَّها مزجت التاريخ مع الفانتازيا مع الدين والتنانين وقصص الفلَّاحين العوام -وهنا تكمن العبقرية في السرد- ليخرُج لنا تيل.

كان تيل معروفاً لدى الأوروبيين قبل الرواية هذه، فهو في الأصل شخصيَّة شعبيَّة خيالية ألمانيَّة -أتساءل لماذا لم يرد ذكره في قصص الأخوين غريم؟- لكن ما فعله الكاتب دانييل كيلمن، حسب بحثي، أنَّه سحب تيل من زمنه الافتراضي في القرن الثالث عشر ووضعه في القرن السابع عشر حيث كانت الحياة أسوأ وأصعب. أولنيشبيغل يشبه إلى حدِّ كبير شخصيَّتنا العربيَّة جحا، وأهم تشابه هو السخرية اللاذعة من أحوال المجتمع، والحمار. تيل لديه أيضاً حمارٌ متكلِّم يظهر لأجل إلقاء النُكت أو التعليق على حدثٍ ما. والسؤال الذي يتبادر إلى ذهن القارئ دائماً: هل هو حمارٌ متكلِّم حقاً أم أنَّ تيل يتكلم من بطنه بأفكارٍ حماريَّة؟

اقتباس من تيل أولنشبيغل

في الحقيقة، أستطيع كتابة مراجعة كاملة حول الحمار فقط ومدى روعته في الرواية .. ذكَّرني كثيراً بالحمار الذي صار صديقاً لـ Shrek، الحمار الساخر الذي أحبَّ تنينة وتزوَّجها وأنجَب منها حميراً مُجنَّحة. نعم هذا بالضبط مستوى العبثيَّة في هذه الرواية ومدى السُخرية الذي نتحدَّث عنها. للحمار اسمٌ بالطبع، إلَّا أن تيل فضَّل أن يناديه بالحمار فقط، لأنه، بطبيعية الحال، حمار! اسمه أوريغنس، وبحسب بحثي، هو اسم كاهن مسيحيِّ أيضاً قضى حياته متجوِّلاً بين المدن بسبب الاضطرابات الطائفية والدينية التي لا تختلف كثيراً عن حياة الحمار في الرواية.

لا تسير الرواية بخطٍّ سرديٍّ واضح، بل تنتقل بالأزمان والأحداث بشكلٍ مُربكٍ حقاً، وهذا انعكاسٌ مباشر لشخصيَّة تيل الفوضوية. تبدأ الرواية بحدثٍ عبثيِّ عندما تصل فرقة التهريج إلى إحدى القرى الألمانية النائية، ويبدو على سكَّان القرية الفرح الشديد لكون شخصيَّة مشهورة كـ تيل قدِمَ إليهم، وهناك يُلقي عدداً من النكات وتقع عدد من الأحداث التي أبقتني مُتحمِّساً لقراءة باقي الرواية رغم الإرباك الذي سبَّبته لي فيما بعد.

تحمل الرواية العديد من السمات الفنتازيَّة، لكن لا شيء يظهر منها، نحن نسمع فقط عن وجود تنانين وساحرات وبيض ذهبيّ لكنَّنا لا نراهم ولا يظهرون في الصفحات، وهذا بالضبط ما يريد الكاتب إيصاله إلينا. فهذه الرواية أشبه برواية تاريخية من وجهة نظر الفلَّاحين، وكيف أنَّ العوام دائماً ما تكون لديهم خرافاتهم الخاصَّة وتفسيرهم للأمور التي لا يقدرون على استيعابها بتفسيرات ماورائيَّة.

الرواية من تأليف الألماني دانييل كيلمن الذي كنت أجهله قبل قراءتي لهذا العمل. ومن ترجمة السوريِّ الأستاذ نبيل حفَّار، وهي ترجمة إبداعيَّة فصيحة مُتمكنة احتفظت بروح النصِّ الأصليِّ، قرأت أعمالاً من ترجمة الأستاذ نبيل من قبل لعل أبرزها المسخ لكافكا وقصص الأخوين غريم، وجميعها كانت ترجمات متميِّزة. لكن أجزاء كبيرة من الرواية سمعتها عبر تطبيق ستوري تيل بصوت الأردني داوود عفيشات، وداوود عفيشات صاحب صوت فخم ومؤدِّي ماهر، صحيح أنني كنتٌ ناقماً عليه لأدائه الأقل من المتوسِّط في أغنية الجليد والنار ومازلت، لكن استمعت لأكثر من عملٍ بصوته وأستطيع القول أن تيل كان الأكثر إتقاناً فقد رواه بشكلٍ رائع، كل كلمة منطوقة كانت واضحة، سرعة مثاليَّة للسرد، وانتقال سلسٌ بين الشخصيَّات، ستضحك بلا شك عندما يبدأ الحمار بالكلام أو عندما يغضب تيل ويبدأ بشتم الحضور!

تيل أولنشبيغل

لم أكتُب عن كل شيء في هذا العمل بعد، فالكثير من الأمور تحدث بين الصفحات، نتمكَّن من ملامسة حياة القرويين والفلَّاحين والجنود، ونعيش الدمار القاسي الذي أحدثته حروب ذلك الزمن، ونقضي بعض الوقت مع أفراد العائلة المالكة البوهيمية المنفيَّة، ونلتقي بالراهب اليسوعيِّ أثانيسيوس كيرتشر، ونحضر محاكم التفتيش، ونبيت في الغابات المسكونة، نعيش في أحلك فترة من تاريخ أوروبا الأسود .. ولكل هذه الأمور أحبُّ أدب الفنتازيا، وأحببت هذا العمل جداً!

اشتراك
إشعار إلى
guest
0 Comments
الأقدم
الأحدث الأعلى تصويتاً
تعليقات مضمنة
رؤية جميع التعليقات

تواصل معي

لأن كل مشروع عظيم يبدأ برسالة، أرسلها الآن، وسأقوم بالرد عليك بأسرع وقت.