لا أعتقد أنَّني حيِّ .. لماذا؟ دعوني أصِفُ لكم وضعي الآن، جالسٌ في مكتب على كُرسيِّي المريح، أستَمع لدورةٍ تعليميَّة من شأنها تطويري في العمل، والصوتُ في الخلفيَّة لزميلي المصريِّ الذي يكبُرني بعامين في الجهة الأخرى من الغرفة يتكلَّم ويضحك مع خطيبته التي سيتزوَّج منها بعد رمضان. أكتُب هذا النصَّ على اللابتوب بعدَ أن أفهمتَه أنني أُسجِّل الملاحظات من الدورة.
تُضاء شاشة هاتفي ليرنَّ مُقاطِعاً إياي أثناء كتابتي هذه، لتصيح أمِّي بي أنَّه لا خُبزَ في البيت وأنَّ أجلب معي بعض الأغراض. فأخبرتها أن ترسلهم على الواتس آب، لتُرسِل لي فوراً لائحة بخمس مُنتجات: برسيل، وربّْ البندورة، وعدس، وخضار مُجمَّدة، ومايونيز، “ولا تنسى الخبز أهم شي”. اللعنة! لقد قطعت عنِّي تسلسل الأفكار. قرأتُ ما تريده عدَّة مرَّات وعدت إلى اللابتوب مُحاولاً إكمال كتابة هذا النص.
إذاً ماذا كنت أقول؟ صحيح .. لا أعتقد أنَّني حي .. وذلك لأنني … اللعنة مرَّة أخرى. يسألني زميلي المصريِّ بصوتِه المنخفض الذي اضطررتُ بسببه لنزع السمَّاعات عن أذني: “متى ستنتهي الحرب في سوريا؟”. لم أدخل معه في مدى أهميَّة التسمية وأنَّها ليست أزمة أو حرباً بل هيَ ثورة شعبيَّة بدأت صافية بصفاء اللبن لكن النظام نجح في تحويلها إلى حرب طائفية وأنَّني كسوري لا أعرف متى ستنتهي ولا شيء يلوح في الأفق. أجبته: “ومن يدري؟”. وصمتْ. وعدت إلى اللابتوب لإكمال هذا النص الذي حلَف عليَّ ألَّا ينتهي.
وفي الحقيقة، لقد نسيتُ تماماً ما كنتُ أريد كتابته. بل دخلت في دوَّامة من التفكير حول تلك الحرب اللعينة التي بدأت بثورةٍ عُمرها اليوم عشر سنوات. عدتُ بذاكرتي إلى بداية الثورة، حيثُ خرج الأطفال من درعا وكتبوا عبارات على الحيطان، لتستنفر قوَّات الأمن والمخابرات ويخطفون الأطفال ويقومون بتعذيبهم، لتبدأ بعدها سلسلة متتالية من الأحداث وتتدمَّر المدن كقطع الدومينو الساقطة وحدة تلو الأخرى. كيف وصلنا إلى هنا؟ لقد بدأ الأمر بمظاهرات شعبيَّة عفويَّة، فبدأوا بإطلاق الرصاص، فخرج المعتقلون بعفوٍ رئاسيِّ، واستمرُّوا بإطلاق النار، فبدأت الانشقاقات، واستمرُّوا بإطلاق النار، فتكوَّن الجيش الحر، وزادت الإنشقاقات، فدخل المجوس والشيعة، ودخل الروس، ودخل الأمريكيَّون، ودخل الأكراد، ودخل الأتراك .. جُرِّبت على الشعب جميع أنواع الأسلحة، الجديدة والقديمة والمبتكرة، المحظورة والممنوعة. و و و … ولا يمكن أبداً تلخيص 10 سنوات في عقلي ضعيف الإدراك.
إذاً متى ستنتهي الحرب؟ لقد بدأت بالتفكير في سؤال زميلي المصريِّ الذي رماه بلا مبالاة، وبدأت لدي تلك الدوَّامة التي أنسَتني أنَّ عليِّ الخروج من المكتب مُبكِّراً لكي ألحق الفُرن قبل أن يُغلِق في الساعة التاسعة. ثُمَّ كيف سأستطيع جلب باقي الأغراض وفي تلك الساعة ستكون قواي قد أنُهِكت. وفي جيبي فقط 300 ريال عليَّ المُحافظة عليها لحين استلام الراتب، وذلك لأنَّ البنك قد أغلَق حسابي البنكي لأنني لم أُحدِّث البيانات بسبب أنَّني انتقلت إلى عملٍ جديد ولم أكتب العقد بعد .. أووه صحيح .. العقد.
تذكَّرت أنني لا يجب أن أخرج قبل أن يأتي مديري الجديد وأناقشه في مسألة العقد ونضع النقاط على الحروف، وأريده أن يدفع لي بدل السكن بسرعة، لأن صاحب المنزل ينتظر مني دفع الإيجار وأنا لا أملك حالياً سوى تلك الـ300 ريال في جيبي. وبالمناسبة، مديري القديم اتَّصل عليَّ بالأمس يريد ان أُنفِّذ له عملاً وقد حاولت تنفيذه اليوم لكن لم أتمكن من ذلك وأنا أقكِّر كيف يمكنني تنفيذه من دون الذهاب إلى الورشات في الصناعيَّة خاصَّة وأن الصيف قد أتى بكامل ثقَله في الرياض والمكيِّف مُعطَّل بالسيَّارة لأن في جيبي فقط 300 ريال، وربما سوف تصبح مئتين كي أشتري الأغراض لأمي اليوم.
إذاً .. كما كنتُ أقول لا أعتقد أنَّني حي.
إنَّ حياتي تسير بشكل متسارع جداً، للدرجة التي لا أستطيع إكمال نصِّ كهذا، لا أستطيع التوقُّف عن التفكير فيما حدث في الماضي وفيما سيحدُث في المستقبل القريب، وهكذا يُشغلني عقلي بقضايا حصلت، وقضايا لم تحصل بعد. إنَّ تلك الدوَّامات الفكريَّة تتخبَّط بي يميناً ويساراً. لأمور قد حصلت في الماضي البعيد، وأمور قد تحصل في المستقبل، وفي الحقيقة، الماضي والمستقبل هيَ مجرَّد أوهام وعامل يُشتِّت العقل ويُغيِّبه بشكل كامل، غير مدرك أنَّ الشيء الوحيد الذي أملكه هو الآن .. هو اللحظة الحاليَّة.
إنَّ ما حدثَ في الماضي هو أمرٌ خارج مفهوم الوقت، وما يمكن أن يحدث في المستقبل كذلك. إنَّها مجرَّد ومضات خارج الآنيَّة. ولو أنّني ظللت أركِّز على تلك الومضات، فسوف يُسرق منَّي الوقت الحقيقي، تُسرَق منَّي الحياة الحقيقيَّة، فبدلاً من أن أعيش مع نفسي تلك اللحظات الآنيَّة من الراحة والسعادة والحُب ها أنا ذا مشغولٌ في الحرب التي صار جُزء كبيرٌ منها في الماضي، ومشغول في طلبات المنزل التي لا تنتهي وفي العمل والإيجار والمدير والمكتب وزميلي المصريِّ وأمور قد لا تحصل، وسأظل أفكَّر في التالي، ثُمَّ في تالي التالي، وفي تالي تالي التَّالي .. وهكذا أدخل في مرحلة انتظار متواصل بدون أن أعيش اللحظة الحاليَّة الآن. وهذه ليست حياة بحق، بل نصف حياة.
تُضاء شاشة جوَّالي مجدَّداً لتظهر كلمةٌ في منتصفها .. “بحبك”، هكذا تقول. يتوقَّف الزمن أخيراً .. فأبتَسم، ويبتسم قلبي، وأكُمِل السباحة مع الدوَّامات مُبتسماً.
في الحقيقة، أعتقد أنني حي .. حيٌّ جداً !