سفينة وسط محيط

ورطة

الوحوش لا تكتب .. هكذا قيلَ في إحدى المرَّات. لكن في الحقيقة، الوحوش هي أكثَر من تحتاج إلى الكتابة، الكتابة بحبرٍ سائل أو بدمٍ متدفِّق، لا فرق حينها. لطالما كانت الكتابة ضمادةً لنزيفٍ لا يتوقَّف أصلاً، ضمادةً نلحُم بها جرح الوجود الغائر فينا بنصله الحاد، الوجود الذي هو، بيقينٍ لا يقطعه شكّ، أشدُّ الآلام مرارةً على الإنسان.

لكن حقاً من أين ابتدأ كل هذا؟

طفولتي كانت رتيبة، كنت أيسَر الولادات على أمي، لم تتعب بتربيَتي أيضاً، كنت طفلاً مُسالِماً هادئاً طوال الوقت. تروي لي أمي أنني لم أكن أتكلّم إلا إذا وجّه لي أحدٌ الكلام، لم أكُن أخرُج للعب في الحارة أبداً، لم أرافق يوماً أولئك الطلاب الذين يجلسون في الصفّ الأخير في الفصول الدراسية، لم أتشاجر يوماً مع أحد، ودائماً ما أكون في المراكز الثلاثة الأولى .. لطالما كان دفتر التلوين رفيقي، ومجلّات الأطفال المصوّرة أقصى درجات متعتي، وأيامي أقضيها على سبيستون وفي حفظ القرآن .. الآن فهمت أنني كنتُ أراقب العالم من حولي بصمتٍ مدهوشاً منه، أتأمل في ألم الوجود ولذّة العدم.

صبرتُ على هذا الألم فترة طويلة من حياتي، كنت أسأل تلك الأسئلة التي تُربِك والدتي، والتي لا أقتنع بإجاباتها فتُحيلني إلى أخي الأكبر أو جدّي. نظرتُ إلى العالم، إلى العلاقات، إلى المجتمع، إلى النظام، إلى الإنسان، نظرة الدهشة، نظرة الطفل الذي يتعرّف توّاً على الدنيا. تعلَّمت من أمِّي كيف أُحبُّ وأحَب، تعلمت من أبي التضحية، تعلمت من أخي حب العلم، وتعلمت من جدّي الإيمان. مررتُ بمراحل عديدة مختلفة، كانت أفكاري في كلٍّ منها تكاد تكون على النقيض من الأخرى، إلا أن النشوة كانت الشيء الوحيد المشترك بينهما، نشوة الوصول لحقيقة ما، أو التخلص من إحدى الخرافات والعادات البالية وتكوين نظامٍ قيَميٍّ خاصٍّ بي. كانت مراحل متسلسلة تصاعدية مطمئنة رغم كل ما بها من عواصف، إلا أنها كانت توحي بأني أسير على مهل في طريق محدد، ببطئ أجل، لكن التقدُّم ملحوظ.

أدركتُ باكراً أنني في ورطة لا مهرب منها، ساقطٌ بحفرةٍ بلا قاع، طريق ملتوٍ بلا نهاية، فخٌّ لا فكاك منه. والأدهى والأمرّ، أنه ما من شيء قادر على أن يجعلك تتجاهل ما تدرك وجوده بالفعل، إنها عملية مُعقدة وحمقاء وحتمية الفشل. ولكن لمَ كان الإدراك في البدء؟ لتجنب العقبات؟ أم لتقبُّلها؟ لمنطقة الأشياء وفهمها؟ انظر حولك، ذاك الصراط الرفيع يجتازه الجميع معصوبي العينين، هل الجميع يحسُّون بهذا الألم؟ أم أنّ الرؤية حكرٌ على أناس دون غيرهم؟ هل قرروا تجاهله فحسب؟ كيف فعلوا ذلك؟ ياله من طريق طويل، شاقٌ ومجهد، ذاك الذي تورَّطنا به. أليس العدم هو ما نطمح إليه؟ تلك اللذة التي تفوق كُلَّ الشهوات، أليست أفضل من ألم الوجود؟

لا إجابات.

ستبقى تلك الأسئلة مجهولة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .. لكن على الأقل يُمكننا أن نعصِب عيوننا أيضاً مثلهم، ونلتفَّ حولها، نتجاهلها، ونمتنع بشتَّى الطرق عن التفكير فيها .. وإذا تصادَف أن وجدنا في طريقنا صُحبَة حسنة فلننتهزها، صحبةً تُعيننا على المضيّ قُدماً، تفتح عيوننا لتُعطينا نظرةً أثقب، تُعيننا على تجاوز الحواجز، وحلّ العقدة، تمسح عنّا وَعْثَاءَ السفر، وكآبة المنظر .. صُحبة تُساعدنا على الاستمرار وحسب، لأننا متورّطون بجميع الأحوال ولا يمكننا مواجهة تلك الورطة وحدنا.

اشتراك
إشعار إلى
guest
1 Comment
الأقدم
الأحدث الأعلى تصويتاً
تعليقات مضمنة
رؤية جميع التعليقات
قمرة أندلسية
قمرة أندلسية
نوفمبر 2, 2022 7:24 م

ورطة فعلا، سلمت أناملك ?

تواصل معي

لأن كل مشروع عظيم يبدأ برسالة، أرسلها الآن، وسأقوم بالرد عليك بأسرع وقت.