I’m Thinking of Ending Things

نظرة على التفكير بإنهاء الأمور .. أمور حياتي I’m Thinking of Ending Things

هل سبقَ أن شعرت أنك تُريد تعذيب نفسِك وتستَمتع في تعذيبها وتعود لتعذيبها؟ حصلَ معي هذا الأمر في الفيلم، رغم أنَّك تشعر بالإنزعاج والارتياب إلَّا أنَّك ستُعيد مشاهدته، وتستمتِع في نشوة الرعب النفسي الذي يمنحها لك. 

أقربُ شعور يمكن أن أصِف الفيلمَ به هو شعور الريبة المُبهِجة لالتهاب القولون، تستغرب وتسأل كيف ذلك؟ وأنا هنا لكي أجيب. أنتَ تعلم أن هناك شيئاً ما في جسمك، يُدغدِغكَ أحياناً ويُريحُك أيضاً وتتألم منه، لكنك لا تعرف ما هو هذا “الشيء” وسيزداد الشعور ألماً بمرور الوقت، وهكذا الفيلم، ستشعر بالارتياب حوله، ولكنك لن تفهَم أبداً لماذا. 

لكن في الحقيقة، جميعُ تفاصيل الفيلم تدعو للارتياب، بدءاً من الطقس العاصف، مروراً بالجوِّ القاتم، وزوايا التصوير القريبة، والضَحِك المبالغ فيه. الفيلم مأخوذ عن روايةٍ تحمل نفسَ الاسم، ومُخرِجه هو تشارلي كوفمان (هو نفسه العبقريِّ الذي قدَّم لنا الفيلم الأوسكاري Eternal Sunshine of The Spotless Mind) لذا توقَّع أن تُشاهِد فيلم سرياليِّ دسم. 

هنا توقَّف عزيزي عن القراءة لأني سأبدأ بحرق الأحداث.

«أُفكِّر بإنهاء الأمور .. بمجرَّد أن تخطُر هذه الفكرة على بالي، فإنها تبقى، تعلَق، تلتَصق، وتُهيمِن. لا يمكنني فعلُ الكثير بشأنِها، ثِق بي، ستظلُّ هناك شئت أم أبيت. فكرةٌ حاضرةٌ عندما آكل، عندما أذهب إلى الفراش، عندما أنام، وعندما أصحو. فكرةٌ تُلازِمني دائماً، دائماً».

يوحي لنا الفيلم أنَّ الفتاة هي من تُفكِّر بإنهاء ارتباطها مع حبيبها، لكنَّها تُسايِرُه، خوفاً من ردَّة فِعله، رغم معرفتها كيف ستنتهي الأمور، وتذهب معه في رحلةٍ طويلة للالتقاء بوالديه.

هذه هي الفكرَة الأساسيَّة والواضحة للفيلم، وفيما يلي ذلك، يتغيَّر كل شيء، وندخل في عالم سرياليِّ مليء بالرمزيَّات والغموض والإزعاج (نعم هذا الفيلم مزعِج جداً للمُشاهَدة، ويشعُر فيه المتفرِّج بالاختناق والارتياب وبنبضات قلبه المتسارِعة في كُلِّ مشهد منه). ندخل في عالم سرياليِّ مليء بالضحِك المُربِك، مليء بعبور الزمن وتغيُّر الشخصيَّات وأشكالهم وظروفهم، مليء بالتداخُل وفقدان الذاكِرة والهويَّة، مليءٌ بالآيسكريم والعواصف والكلب الذي يُجفِّف نفسه، مليءٌ بالمشاهِد المتفرِّقة لرجلٍ عجوز ذو حسٍّ فنيٍّ عالٍ مُثقَّف وقارئٌ نَهِم لكنَّه مُحتَقَر في مُجتَمعه .. ووحيد.

أعتقِد أنَّ ما أريدُه حقاً هو أن يعرفني شخصٌ ما، يعرِفَني بحقّ، يعرفَني أكثَر من أيِّ شخص آخر، أكثَر حتَّى من نفسي. أليسَ هذا السبب الذي يدفعُنا للبقاء مع الآخر؟! ليسَ من أجلِ الجنس، لو كان من أجلِه لما كُنَّا تزوَّجنا بشخصٍ واحد، ولكنَّا ظللنا نبحثُ عن شُركاءَ جُدد. نحنُ نبقى لأسبابٍ كثيرَة، أعرِف هذا، لكنَّ السبب الرئيسي لبقائنا هو هذا، السببُ الرئيسي لعلاقاتِنا طويلَة الأمَد هو معرِفتُنا بشخصٍ ما. أريدُ حقَّاً أن يعرفني شخصٌ ما، يعرفني معرفةً مُطلَقة، كشخصٍ يعيشُ داخِل رأسي، كيف سيكون الشعور يا تُرا؟ أن تَصِل .. أن تعرِف كيفَ سيكون الوضع داخِل رأسِ أحَدِهم؟ أن تعتَمِد على شخصٍ آخر، وأن يعتَمِد عليك؟ إنه ليسَ ارتباطٌ حيويٌّ كارتباطِ الآباء مع أبنائِهم. إنها نوعٌ من العلاقات المُصطفاة. أجمَل وأكثَر روعةً وأصعَب أن يتمَّ تحقيقُها بعكسِ العلاقات الحيويَّة الجينيَّة. أعتقد أنَّ هذا هو جوهَر العلاقات، وهكذا نوقِن أن العلاقَة حقيقيَّة جداً، عندما يعرِفُنا شخصٌ آخر لم يكُن على صلةٍ بايولوجيَّة بنا من قَبل، يعرِفُنا بطريقةٍ لم نُفكِّر بها أو نعتقد أنَّها ممكِنة من قبل.

* هذا الاقتباس من الرواية ولم يُعرَض في الفيلم.

الوحدة، هي كلمَة السِّر هنا. هذا العجوز هو عامل نظافةٍ في مدرسة ثانويةٍ ما في بلدةٍ نائية، يتَّضح مع سيرِ الأحداث أنَّ الطَلبة يحتقرونَ مهنَته، كما أنَّه مُثقَّف، يعشق المسرحيَّات ورقصات الباليه، ويستَمع للموسيقى ويأكل الآيسكريم. لكنَّه وحيد، وحيدٌ جداً، يعيش في عالَمه الموازي من خيالاتِه التي صنعَها داخِل رأسِه لتمنَحه الدفئ في هذا الجوِّ البارد العاصف. لكن ما هيَ هذه الخيالات؟ و … بوووم هنا تأتي المُفاجأة والالتفافة العبقريَّة في الحبكة التي عُرِضَت وتوضَّحت في الفيلم بشكلٍ بديع.

I’m Thinking of Ending Things (2020)

إنَّ الفتاة التي لا تـ/نعرف اسمها (في الحقيقة يتبدَّل اسمُها أربع مرَّات خلال سيرِ الأحداث) وصديقها جايك وكُلُّ ما حدث معهم، ما هم سوى خيالاتٍ في رأس الرجل العجوز (جايك الأصلي) الفيلم ما هو سوى رحلة داخل رأس هذا الوحيد الذي قرَّر إنهاء الأمور/إنهاء حياته، لكن عليه التخلُّصَ من هذه الخيالات في البداية. وهكذا الإنسان الوحيد، يلجأ إلى رأسِه ليُوهِم نفسَه، لتمضيَة الوقت، ويشعُر بمعنى للحياة، وأن الحياة ليسَت عبثاً، وأنَّ هناك سببٌ لوجودِه. لكنَّه يصل لمرحلةٍ يتقبَّل فيها مصيره، ويُقرر فيها إنهاء حياتِه. وهذه الفتاة، ليسَت فتاةً مُعيَّة أحبها، فتاريخها الشخصيِّ يتغير أيضاً مع اسمها، مرَّة هي فيزيائية، ومرة أخرة هي رسَّامة، ومرة تعمل في حانة. وهكذا الفتاة ربما تكون مجموعة فتيات حاول التقرُّب منهنَّ في زمن ما في حياته. 

يُقال في فضاء الإنترنت (ولا أدري صحَّتها) أن فرويد حينما تحدَّث عن ڤان چوخ قال: «كان سيعيشُ طويلاً لو نجحَ في الحب، لكِن فشلُه في العثور على فتاةٍ تُرافِقه ساهم في انهياره». 

وهذا چوخ وهذا عجوزنا جايك، كلاهُما وحيد، غيرَ أن جايك عاش حياة طويلة، وكان أجبَن من أن يُنهي حياتَه على أمل أن يعثر على الفتاة يوماً. وكانت الفتاة في مخياله هي التجسيد الحقيقي للأمل، في مشهد الذي نزلوا فيه لتناول الآيسكريم، قالت البائعة للفتاة: «لستِ مُضطرَّة للرحيل، إلى الأمام، عبرَ الزمن، أرجوك لا ترحلي، يمكنكِ البقاء هنا، أنا خائفـ/ـة جداً، خائفـ/ـة عليكَِ». ليبدو الأمر وكأن الفكرة الجميلة الوحيدة التي تُساعد جايك العجوز على الاستمرار يُريد التخلُّص منها، بعد أن تقبَّل مصيره وأنه وُلِد وحيد، وعاش وحيد، وسيموت وحيد.

I’m Thinking of Ending Things

نجحَ الفيلم في خلقِ شعور القلق للمشاهِد منذ أوَّل مشهدٍ حتَّى الأخير من دونِ تحديد السبب بالضبط. فيلم ذا طابعٍ سرياليِّ وعاطفي ومزعج (كررتها كثير صح؟ لأن الفلم فعلاً مزعج!). وحينَ يصل البطلان إلى المنزل بعد الرحلة الطويلة، تبدأ الأحداث الجنونيَّة بالتصاعُد، ستوقِف الفيلم عدَّة مرات، وتعيدُه بضع دقائق لتستوعِب فقط ما شاهدته، وتحاول اكتشاف لماذا أنتَ مُرتاب مما رأيت. وربما ستحتاج لمشاهدته مرَّة ثانية لاستيعاب ما جاء به.

علاقَة جايك مع والديه ليست جيدة، تتغيَّر تصرُّفاتُه كثيراً حين يراهما. يظهر الوالدان في منتصف العُمر أولاً، ثُم كشابَّين أصغر سنَّاً، ثم مرحلة الشيخوخة والاحتضار. يبدو الوالد مريضاً جسديَّاً، أما الوالدة فمريضةٌ عقلياً. 

لم أفهَم الرمزيَّة وراء ظهورهم بهذا الشكل حقاً، لذا ببحثٍ بسيط وجدت الآتي: يُحاول جايك العجوز إعادة تصوير حياته مع والديه بالطريقة التي يتمنَّى أن تكون عليها، وفي ذات الوقت يُحاول إضافة الفتاة التي يُحبُّها في حقبةٍ زمنيَّة سعيدة في علاقته مع والديه من حياته، لكنَّه لا يجد، لذلك كانت تتبدَّل أعمارهم باستمرار.

الفيلم بديع، مليء بالرمزيَّات التي لا يمكن شرحها والاستفاضة فيها، ومليء بالحوارات المذهلة، ورغم طول المشاهِد الحواريَّة فإنَّك لن تشعُر بالملل مطلقاً.

على كل حال، انتهت الحياة مع جايك كرجُلٍ عجوز وحيد للغاية يتحسَّر على أيامه الماضية ويعمل في مهنة مُحتَقرة، لم تعامله الحياة بشكلٍ لائق، لذلك يُعيد تخيُّل حياته كما أرادها أن تكون: أبوين عطوفين وحبيبةٌ جميلة. إن العجوز يائس جداً من الحياة للدرجة التي يتمنَّى فيها أن يكون مُمثِّلاً في مسرحيَّة لمدرسة ثانوية. 

– سأريكِ الحظيرة حيثُ كُنَّا نربي الخنازير .. لقد اضطروا لقتلها جميعاً .. أصابتها آفةٌ فظيعة .. الحياة ليسَت جميلة دائماً.
— ماذا حدث لها؟
– تأخَّر أبي بضعَة أيَّام في المجيء لتفقُّدها، كلاهُما كانا مشغول. كان يرمي الطعام في الحظيرة وحسب. لكن بعدَ بضعة أيَّام، لاحَظ أنَّها مُستلقيَة كلها في الزاوية طوال الوقت، فدخل ليتفقَّدها، لم تبدو بخير، فقرَّر أن يُحاول نقلها. وحين تمكَّن أخيراً من تحريك أحدها .. اكتَشف أن الجُزء السفليِّ من بطنها مليءٌ بالديدان. كِلا الخنزيرين كانا يُلتَهمان على قيدِ الحياة. أحياناً ما تكون الحياة قاسية في المزرعة.

I’m Thinking of Ending Things

ليسَ سيئاً أن تتوقَّف عن الشفقة على نفسك بأنَّك مُجرَّد خنزيرٍ صغير، أو حتَّى أسوأ: خنزير صغير تنهشهُ الديدان. على أحدٍ ما أن يكونَ خنزيراً محشوَّاً بالديدان، أليسَ كذلك؟ ربما تكونُ أنتَ، إنَّها مسألة حظ. عليكَ أن تتقبَّل قدرك، وتستغلَّ مُعطيات الحياة بأفضل طريقةٍ ممكنة، ثُمَّ تمضي قُدماً. لا تقلق حيال أيِّ شيء.

بالطبع لم يُشارِك العجوز في مسرحيَّة أوكلاهوما، بل اختتم ليلَته بعد أن يعود لسيّارته ويتعرَّى من ملابسه. يسترجع ذكرياتٍ من حياته، والديه وأفلام الكرتون عندما كان طفلاً. ويوهمنا الفيلم بمشهد الخنزير الذي قام بملاحقته، والذي أقنَعه أن يتقبَّل مصيره ووحدته، وفي اللقطة الأخيرة نرى السيَّارة مُغطَّاة بالثلج، وهذا يعني أنه لم يخرج من المركبة أبداً، وعلى الأغلب تجمَّد هناك حتى الموت.

هذا الفيلم يفتَح جُرحاً غائراً، ويُعطينا رؤيةً حول النفس البشريَّة الوحيدة، هذا الفيلم إمَّا أن تُحبَّه وتعيد مشاهدته أكثر من مرة لفهم رمزيَّاتِه أكثر، أو سترغب في شطبِه من ذاكرتك وعدم العودة إليه مجدداً خاصَّة لو كنتَ كالعجوز: وحيد.

هل وجدتَ كلماتي متناقضة وغير مفهومة؟ هذا لأن الفيلم مُربِك ومزعج .. مزعجٌ جداً.

اشتراك
إشعار إلى
guest
0 Comments
الأقدم
الأحدث الأعلى تصويتاً
تعليقات مضمنة
رؤية جميع التعليقات

تواصل معي

لأن كل مشروع عظيم يبدأ برسالة، أرسلها الآن، وسأقوم بالرد عليك بأسرع وقت.