ربما تكون المصافحة فعلاً روتينياً عديم القيمة للبشر، فعلاً إعتيادياً يفعله البشر لرفع العتب فقط، لكن بالنسبة لشخص يستطيع استنتاج العديد من السمات الشخصية وزيادة مهارات التفاوض والإقناع عبر المصافحة فقط لن يكون هذا الفعل روتينياً.
وهكذا جائت الكورونا لتمنع البشر التقارب والوكز والحضن والمصافحة وأيُّ فعل يتضمن التقارب الاجتماعي الجسدي، وأنا قد أخذت احتياطاتي بالكامل، ولم أصافح أحداً منذ شهور.
لكن اللعنة، أشعر بأني بحاجة لمصافحة أحدهم حقاً، وهكذا بحثتُ في اليوتيوب عن كيفية المصافحة، لأني بصراحة تامَّة قد نسيت كيف أصافح الناس، وشاهدتُ محاضرات مطوَّلة عن أتكيت المصافحة وأهميتها في التاريخ الإنساني والتطوُّر السلوكي والميتافيزيقيا الإغريقية ومعابد الآلهة اليونانية الإنثروبولوجية والبوب كالتشر لا يتَّسع المقام لذكرها.
وأخيراً اليوم قررتُ أخذ خطوة جديَّة نحو الأمر، وجهَّزت مُعداتي من كفوف وكمَّامات ومعقِّم لليدين في السيَّارة، وترجَّلت منها متوجِّهاً نحو أبو إسماعيل.
وأبو إسماعيل هذا رجل يعمل في السكراب في بيع وشراء جميع أنواع الخرداوات، وهو رجل بدويُّ لا يعترف بكورونا على الإطلاق. لكني قوَّيت قلبي وتشجَّعت ونطقتُ بالشهادتين بسرِّي ورفعتُ كفِّي أريد مُصافحته، لكنَّه رفع يده وضرب كتفي مُبتسماً وقال أن مصافحة السودانيين هي أفضل مصافحة في أوقات كورونا.
خرجتُ من عنده لاعناً حظِّي، ولكنِّي حمدت الله أني لم أصافحه، فيده كانت خشنة وأنا أبحث عن يدٍ ناعمة، والأفضل أن تكون ناعمة وسمينة أيضاً.
وهكذا التقيتُ بـ سهير، وسهير شاب باكستانيٌّ ضخم الجثَّة يعمل في إصلاح الجوَّالات. التَيقتُه ومددتُ يدي مصافحاً، وانفجر وجهي ضاحكاً حينما مدَّ هو يده بدوره وتصافحنا. وياللروعة، أوَّل مصافحة لي منذ ستة شهور على أقل تقدير.
الآن جميع كلامي في الأعلى لكي أصف لحظة المصافحة هذه فقط. كانت مصافحة حارَّة، أعني حارَّة جداً، استمرَّت لعدَّة ثوان أهزُّ يدي في يده، ثُمَّ وبحركة فجائيَّة مدَّ يده الأخرى واضعاً إيَّاها على ظهر يدي. وكِلانا مسرورٌ بهذه المصافحة.
خرجت من عنده فارغاً فاهي بابتسامة هبلاء غيرَ مصدِّق أني تمكَّنت -وأخيراً- من مصافحة أحدهم بعد ست شهور. وكانت نشوة المصافحة هذه لا تُقاوم. إنه ذات الشعور الذي ينتظره الطالب حينما يدرك أنه تخرَّج ولن يُمتَحن بعد اليوم، كنشوة العطشان الضائع في الصحراء ويجد واحة ماء حقيقي وليس سراب، كنشوة الرجل في يوم الدخلة بعد ٤٠ سنة من العزوبية، كنشوة تناول اليبرق حامضاً بارداً مع رزِّ مستوٍ.
نعم صدقوني، المصافحة مُهمَّة لهذا الحد!