ذلك القميص الذي كُنتُ أرتديه أثناء وداعِ أمّي الأخير والذي تشرّب دموعَها في آخر احتضانٍ جمعني بها منذ ما يُقارب الشَهرين ، ذلك القَميص لمْ أقُم بغسلِه إلى الآن ، ففيه دموع أطهَر وأنقى مخلوقةٍ على وجه الأرض .. أحتَفِظُ به الآن مُعلّقاً على باب خِزانتي وكُلّما اشتَقتُ لرائحتها أضُمّه إلى وجهي ..
النظّارة التي كان والدي يرتديها قبل تحوّلِه لجُثّة هامدة ، تلك النظّارة مُلطّخة بِدمائه ، لمْ أشأ تنظيفها وتخثّر الدم عليها .. ما زِلتُ مُحتفظاً بها كذكرى أخيرة منه ..
ثوبُ جدّي الراحِل منذ أكثَر من 9 سنوات ، مُحتَفظٌ به كذلك وأرتَديه بين الحين والآخر .. كانت أمي كُلّما رأتني مُرتديه تدمع عيونها تلقائياً حتّى تجنّبت ارتدائه أمامها تماماً ..
علبة العطر التي أهداني إياها أعز رفاقي قبل رحيله ، والذي لم أشأ استعماله حتّى نَشَف من حرّ الرياض ، مازلت مُحتفظاً بها .. الرسمَة الوحيدة التي أملِكها والتي تربطني بتلك الفتاة ، مازالت لديّ ولم أستَطع تمزيقها ..
لعنةٌ هي الاحتفاظ بأثر الراحلين بعد رحيلهم عند بعضِ شعوب العالم خوفاً من انتقال أرواحهم الشرّيرة .. لكن ليسَ هذا بالنسبة لي .. تَربِطُني علاقات غريبة بالجمادات .. ببقايا الراحلين وآثارهم (أمواتاً وأحياءً) .. باختلاف توزيع مكانهم في قلبي ، لكن أشعُر أن عليّ الاحتفاظ بأيّ شيءٌ يُذكرني بهم ، الصور لا تفكي ، ولا تسجيلات الفيديو ، أبحثُ دائماً عن شيء مُميّز أتذكّرُهم به .. فهذا بالنهاية جُزءٌ من تاريخي ، تلك الذكريات هي التي كوّنتني وصنعتني وجعلتني كما أنا اليوم .. أحتَفِظ بجميع تلك الأشياء في غُرفتي ، غرفتي تحوي كُنوزاً لا تُقدّر بثمن ..
مُنذ بقائي في المَنفى وحيداً ، بين ليلةٍ وأخرى أُخرِج تلك البقايا وأرصُها جنباً إلى جنب ، في محاولةٍ لاستدعاء أرواحهم وشُرب القهوة معهم .. في كُل مرّة أُخبِرهم ألا يتركوني وحيداً كما يفعلون دائماً .. لا يدوم هذا الأمر طويلاً ، فبعد استيقاظي لا أجِدُهم ، مع خيبةِ فناجين القهوة التي بَقيَت على حالها وبَرُدت ..
أعلمُ أني أستطيع استحضار الأرواح ، لكن ليست الأرواح ما أبغي ، أحاول استحضار الأجساد دائماً ، وهذا ما أفشلُ به مراراً وتكراراً .. الجوارح أكثرُ ما أشتاق ، ولا يُطفِئ اشتياقها إلا اللُقيا .. أحاول وأحاول وأقضي لياليّ اللعينة بإنهاء كل تلك المحاولات البائسة حتّى طلوع الفجر ..