لو أنَّ صوتاً ينبعث من مكان مجهول ليُرافقنا في أحداثنا الحياتيّة .. أستذكِر هذه الخاطرة القديمة بعد أن قال لي زميلي التي تربّى على المسلسلات السورية التي كانت تُعرض في التلفزيون السعوديّ: أنتم شعب دراميّ، يُحب الدرما ويعشقها .. فأجيبه بنصف ابتسامة: دراما سوداء، لأننا نُحب السخرية أيضاً.
أنا أوَّل الساخرين من نفسي، دائماً ما أقولها وهذا العبث لا يتوقّف عندي، فقد بلغ شعبي من الألم حتَّى صار بمقدوره تحويل أردى الأيّام واسوأها إلى طُرفة يتداولها الرجال والنساء والعجائز ليخلقوا الضحك من قمَّة المعاناة، تحار أدمغتنا بين إفراز هرمون السعادة أم البُكاء، فتنتج ابتسامة مشلولة، تصطكُّ الأسنان ويتشنَّج الفك لتخرج الضحكة ما بين الأنين والقهقهة.
أتخيَّل أن الموسيقى التي ستُرافق كلَّ فردٍ من هذا الشعب المكلوم هي موسيقى من تأليف إياد الريماوي قد ظهرت في إحدى مسلسلات حاتم علي. موسيقى ستُرافقنا في كلِّ أمور حياتنا، حين يجدّ المرء نفسه وحيداً يمشي في شوارع برلين أو القاهرة أو الرياض، ما عليه سوى إغماض عينيه ورفع صوت الموسيقى في الخلفيَّة، ليتخيَّل حياةً كالتي يحلُم بها، سائراً في دمشق، يشمّ رائحة المخبز في القيميريّة مختلطة بالياسمين، يقف ليشرب من ماء السبيل، يسمع أصوات لَعِب أولاد الحارة وأحاديث الجارات .. بالمناسبة، ليس من الضروريّ أن تكون موسيقى، ربما هو صوتُ أمِّك تدعو لك، أو صوت ابنك الذي لن يأتِ أو حبيبتك الخياليَّة، أو صوت احترامك لنفسك واحترام الآخرين لك. أصواتٌ تتحدَّى قوانين البثِّ والإرسال وتصعد صوب الروح لتُغذِّيها.
هل تعرف ذلك الشعور عندما تستغرق في بكاءٍ متواصل ثم تدخل في نوبة هيستيريَّة من الضحك، لتعود إلى البكاء مرَّة أخرى؟ هي مرة واحدة بعدها ستصبح شخصاً يجيد الضحك والسخرية من كل شيء، ستمرِّن حواسك على التفاعل والانفعال بشكل كيميائي بارد أقرب ما يكون إلى البلادة أو الجنون لا فرق!
تلكَ هي حربُنا نحن أبناء الحرب، أن نوفِّق بين سخريتنا وبلادتنا اتجاه العالم وبين صوتنا الداخليِّ، فمن يُعيد إلينا الحياة ويعوّضنا عن كل تلك الخسائر؟ من يضمّد جراحنا ويملأ فراغات أرواحنا؟ من يوقظ فينا الأمل حين تُقفل كل الأبواب وتبدو الحياة ككرة كآبة سوداء؟
الأمور الحياتية كلها تميل إلى أن نخسرها، نحن نتمرَّن يومياً على الفقد بكل أشكاله. تلك الموسيقى التي تنبعث من المجهول ربما من الممكن تسميتها الروح أو غريزة البقاء لست أدري، لكن ذلك الصوت هو الذي يصنع منك محارباً، لا تهتم أن تكون بطلاً في قصِّتك .. أنت تحارب وفي هذا انتصار كبير لا أحد يدركه سواك.