المشهد الأوَّل:
أتى الشِتاءُ باكِراً هذا العام في الفجر .. في الواقع، جاء في وقتٍ ما من ليلة أمس بعد مُنتَصف الليل .. كانَ نائماً في ذلك الوقت .. أو بالأحرى ينسُج أحلامه برويّةٍ وِفقَ جميع المُعطيات التي منحتها له الحياة .. كُان غارقاً في النوم وفي أحلامه .. يُفكّر في اليوم السيء الذي مرّ، واستعداداً ليومٍ آخر جديد ومزيدٍ من الأعمال الروتينيّة ..
الشتاء .. جاء في وقتٍ غير مناسِب فعلاً، جاءَ بشكلٍ خفيٍّ ، دَخلَ غرفَتَه من خلالِ الفَتحةِ الضيّقة من نافذتِه التي اعتاد على فتحِها ليسمَح لضوء الصباح بالتَسرّب لعينَيه في حال فَشِلَ المُنبّه في إيقاظِه ..
بدأ الشِتاء في مُداعَبة جسده القبيح العاري بلُطف .. لطالما شبّه نفسَه بعثّ الفِراش، هوَ ليسَ عثّة، ولكن قباحَة جسده لا تدعُ له مجالاً سوى لوصفِ نفسه بأنه مُجرّد حشرة، حشرة ضخمة، حشرة عمالقة .. “كان عليّ أن أولَد حشرة”، دائماً ما كان يقول تلك العبارة في نفسِه .. شعَر برعشة خفيفَة جرّاء مُرور نسمة الهواء .. أدارَ جسده لليمين ليرى أن السِتارة تطير بفعل الريح .. “يبدو أنها عاصفة قويّة” .. لم يطلُع الصُبح بعد وما زال الشارِع ظلاماً حالِكاً خالٍ من المارّة مع ضوء القمر والغيوم .. اصطكّت أسنانه، كان يشعُر بالبرد .. عزا ذلك لنظامِه الغذائي الغير متوازِن ومجهودَه المبذول في العمل .. قام من فورِه، ألقى أحلامَه على السرير وبدأ يستعيد وعيَه .. وواقِعه ..
كان الهواء بارِداً، وكان بحاجةٍ للدفء .. فرك يداه ببعضهما وراح ينفُث فيهما .. قام وارتدى ملابِسه بِخفّة، وعاد لفراشه وتدثّر بغطاءه .. لقد استيقَظ قبل حلول الصباح وقبل صياح الديكَة وقبل رنين المُنبّه .. يُحاول أخذَ الدفئ من كُل الجمادات حوله .. والآن هو مُستلقٍ على الفراش يُحاول كسبَ بعض الدفئ لكن الصقيع مُحيطٌ به تماماً ..
لوهلةٍ حَسِب أن تلك البرودة ليست من الطقس، فكّر في نفسه بعد أن استعاد إدراكه: “أنا في أكثر منطقة حارة من سطح الكوكب ، وما زلنا في شهر ٨ ، من المستحيل حقاً أن يكون الطقس بارداً !!” .. لم يعباً لذلك وظلّ مُستلقياً على سريره حتّى حان موعِدَ عمله وقام وارتدى ملابِسه وذهب للعمل ..
المشهد الثاني:
استيقَظ في وقتٍ ما بعد منتصف الليل على ألمٌ مُفجِع أحاط بجسده كُلّه .. لم يكُن يشعر بالبرد، لكنّ قشعريرة غريبة سرت في عروق دَمِه .. كانَ يشعُر بتخديرٍ في أطرافه الأربعة، تنميل حقيقي، يشعُر أن خليّة كاملةً من النمل تأكل جلدَه ووصلت لشرايينه .. بالإضافة لشعوره بوخزٍ كالإبرة في قلبه، ومع كُلّ شهيق أحداً ما يخنِقُه كي لا يتنفّس .. لم يكُن يريد شيئاً سوى أن يتوقّف هذا الألم .. أراد إحضار سكّين وقطَع أطرافه كي لا يشعر بالألم .. لكنّه لم يقوَ على الحراك ..
اللعنة على حياةٍ تتحكّم فيها الأدوية .. قال في نفسه هذا وراح يلعن نفسه وحياته ومعيشته وأبويه وحظّه وبلده وعمله .. “هذا العَمل سيقتُلني ويبدو أنه حان الوقت لأغادر” .. لم يكن كبيراً على المُغادرة، لكنّ جميع تلك المشاكِل التي تعامَل معها في سنوات حياته العشرين أفقدته عقله وسببت له أمراضَ الشيخوخة بشكلٍ مُبكّر جداً من ضغطٍ وقلب وسُكّري .. حتى تراه ابن عشرين في جسد ستين سنة .. قام وأخذَ أدويته الصباحية وسكنَ الألم بعد ذلك ..
في الأمس، سقطَ مغشيّاً عليه بعد أن ارتَفع ضغطُه في مُشاجرة مديره في العمل، ونُقِلَ فوراً إلى الطوارئ قعد بضع ساعات تحت المُراقبة ثم عاد لمنزله على مسؤوليّته كاذباً على الأطباء أن عائلته ستعتني به .. لكن في الحقيقة لا يوجد أحدٌ في المنزل .. ولا بأس في ذلك ، لقد اعتاد الوحدة ..
ما يتقاضاه من أجرٍ لا يكفيه أبداً .. ونصف راتِبه صار -منذ شهر- يذهب مصروفاتٍ للأطباء والأدوية، فتأمين الشركة لا يشمل حالته الصحية ..
مشهد أخير:
فتَح عينَيه على صوت أذان الفجر، شعر وكأنّه قطعة عجين تنخبز في تنّور .. كانت كُل خليّة في جلدِه تتعرّق، رفع يده ليرى لمعانها في الظلام بسبب العَرق، تحسّس رقبته، بدا الأمر وكأنه كان يستحم على سطح الشمس ..
سَمِع طرقاً على الباب .. قام مُترنّحاً من مكانه اتجاه الباب .. خرج من غرفتِه ليتفاجئ برجلٍ غريب يقف يُبحلِق فيه ..
توجّش منه خيفَة، ثَبُتَ مكانه .. “من هذا الرجل ؟! ماذا يريد في وقت كهذا ؟!” .. في النهاية تكلّم قائلاً:
– لِص؟! فتّش المنزل ولن تجد شيئاً ذا قيمة، وسوف أُساعِدك بالتفتيش لو أردت !
– أتمنّى لو كنتُ لصاً .. للأسف سوفَ تأتي معي ، أنا مرسولٌ من الموت ..
كان وجه الموت مُريحاً وجاداً .. يرتدي ثوبَاً الطرف الأيمن منه أبيض والأيسر أسود .. ابتَسم الموت في وجهه ورفَع يده مُصافحاً وقال بابتسامة:
– صافحني، لقد مِتَّ بالفِعل منذ بِضع دقائق .. تعالَ معي !
صافحه .. ولَحِقَه إلى غُرفَته .. كان المشهد غريباً، رأى جُثّته مُلقاة على سريره .. ويده اليُمنى على رقبته .. وكان يرى الحرارة تنبعث من جُثمانِه .. وقف فاغراً فاه، وبعد أن استَجمع أفكاره قال:
– هكذا ببساطة ؟!! إذاً أنا ميتٌ أخيراً ! لقد حسبت أن الأمر سـ .. سيكون مؤلماً ..
– لقد تحمّلت ألماً بما فيه الكفاية حتى تموت بسلام ..
– ماذا سيحلّ بجسدي بعد رحيلي عنه؟!
– لا شيء .. سيكون بأمان، سيتعفّن هنا بضعة أيامٍ إلى أن يشمّ حارس العمارة رائحتك، ثم سيدخُل الشقّة ويراك بهذه الوضعية .. سوف يُبلِغ جيرانَك وزملائك في العمل، سيحزنون عليك لخمس دقائق ثم يبدأون بالبحث عن مُستأجرٍ جديد وموظّفٍ جديد .. عائلتُك سيدفنوكَ بشكلٍ لائق، ويحزنون عليك وسيجدون السعادة مُجدداً ..
نظرَ حولَه .. راح يُفكّر في كُل شيء مرّ عليه في سنواتِه العشرين .. حياتُه بأدّق تفاصيلها مرّت أمامه، أحلامه، طموحاته، آماله، مسؤولياته، معارفه، أصدقائه، أحبائه، رُفقائه .. شاهدهم في ذاكرته .. فكّر في نفسه:
– لا لا .. أنا جبانٌ جداً للموت في هذا الوقت ، وأني غيرُ مستعدٍ لترك كُل شيء خلفي والرحيل ببساطة ..
أجابَه الموت وكأنه سَمِع ما يدور في ذهنه:
– بل هو ذا أفضل وقتٍ للموت قبل أن تتحوّل روحك لشيء تجهله .. هات يدك وتعال هيّا ..
استَسلَم للموت .. وقال بوهن:
– كنتُ أعتقدُ أن الموت بارد !
– ليسَ للوحيدين سيّد وحيد ، ليس للوحيدين ..