لأنّنا بشر، تلك المخلوقات البائدة المسكينة التي اكتسبت صفات الطاعة الملائكية والتمرّد الشياطنية، ولأننا المخلوقات الوحيدة الأرضية التي تدرك أنها ستفنى، لأنّنا كذلك، فنحن في سعي دائم وحثيث في البحث عن معنى لتلك التي تُدعى حياة.
وهكذا تبدأ دورة الحياة ونجد المعنى متمحوراً حول اللعب مع الأصدقاء، وجود آبائنا بقربنا، المدرسة الابتدائية، حفظ جدول الضرب، حفظ القرآن، التخرّج من المدرسة، دخول الاختصاص الذي نبغيه في الجامعة، السعي لنيل درجة الشرف أو بأسوأ الأحوال النجاح بدون رسوب، ثم التخرّج .. ثمّ ماذا؟ نتزوّج؟ وننجب أطفالاً ليبدأوا الدورة ذاتها التي بدأناها؟ ويصبح معنى حياتنا هي أن نكون معنى حياة أطفالنا؟
ماذا عن أولئك الذين توقّفت حياتهم بعد التخرّج ولم يجدوا شيئاً تالياً ليصلوا إليه؟ لم يسعوا لتحقيق مجدٍ ولا إنجاز المستحيل، لم يحن وقتهم لبناء أسرة -وربما لن يحين أبداً- ليسوا جميلين ولا لافتين للانتباه، ليسوا عباقرة عصرهم ولا فلتة زمانهم .. حياتهم متوقّفة والشيء الوحيد الذي يمشي فيها هو الزمن فيهم.
لماذا انتحرت آنا كارنينا؟ أتساءل الآن بينما أكتب .. ظاهريّاً كل شيء واضح، ولا داعي لسرد أحداثها، لكن الكونت فرونسكي ظلّ يحبها، رغم أنها تخاف حبّه، يرهقها ويُهيّجها ويؤلمها ذلك الحب .. آنا تشعر أنها في فخ! أجل هذا هو الواضح، لكن هل ينوي المرء الانتحار عندما يقع في فخ؟ كثير من الناس يعتادون العيش في فخ! وحتّى ندرك مع سير الأحداث عمق حزنها، يبقى انتحارها لغزاً. تُفكّر آنا بالانتحار قبل يومين فقط من انتحارها، بعد شجارها من فرونسكي تتذكّر فجأة الجملة التي قالتها: “لماذا لم أمُت بعد؟” إنّها تفكّر في موتها المحتمل في غياب أيّ حدثٍ استثنائيّ! في غياب المعنى!
لطالما قلت، وسأظل أقول، أن الموت في سنّ الـ35 للوحيدين هو أفضل وقت للموت، في ذلك السن يبدأ الجسد بالتآكل، وتنتهي مرحلة الشباب وتبدأ الشيخوخة. لكن هذا الرقم كنت قد وضعته في حال أن هنا أمور جديدة تحدث كل يوم، أشخاص جدد، عمل جديد، تجارب جديدة، أماكن جديدة .. ولكنّي الآن، أرى أن سنّ السابعة والعشرين أفضل للموت، أو ربما الرابعة والعشرين أو العشرين.
يا الله .. يا ربّ الأرباب .. ليحدُث أيّ شيء، أيّ شيء، يردّنا إلى الحياة أو يسوقنا إلى الموت!