أوَّل مرَّة تعرفتُ فيها على هاروكي موراكامي كان في معرض الكتاب في 2012 وكنت فيها فتاً غرَّاً لم يتجاوز الثامنة عشر لا يكاد يفقه شيئاً بالأدب العجائبي الذي يقوم موراكامي بكتابته. وفي ذات المعرض كان هناك كشك للنادي الأدبي التابع لجامعة الملك سعود حيث كانت لديهم خدمة استبدال الروايات أو الكتب برواياتٍ استغنى عنها أصحابها، ولحسن الحظ وجدت “كافكا على الشاطئ” ضمن الكتب التي تمَّ الاستغناء عنها، فاستبدلت رواية ما لـ دان براون بـ كافكا على الشاطئ، وفيما يبدو أنَّه منذ ذلك الحين استبدلتُ عقلي بعقلٍ آخر.
أعودُ إلى رفِّ قراءاتي في موقع Goodreads لأجد أنني قد كتبتُ في 2013 عن الرواية وأنها مملَّة وأنني بالكاد تجاوزت 50 صفحة ! يالغبائي !!
بالطبع، قرأت الرواية كاملة بعد سنتين حينما تغيَّرت نظرتي وقرئاتي، وأزعم أنَّني “نضجت” قليلاً خلال تينك السنتين .. واكتشفتُ نصَّاً كتبتُه في تلك الفترة عن الآنسة ساييكي، سأورده الآن تماماً كما كُتِبَ قبل 7 سنوات:
الآنسة ساييكي الجذّابة الرقيقة، إحدى شخصيّات رواية كافكا على الشاطئ لهاروكي موراكامي .. من أعقَد الشخصيّات التي قد تمرّ على ذهن القارئ والأكثر إرباكاً في الرواية .. ليسَ فقط بسبب أن قلبها محطّم لأن الفتى التي كانت تحبّه في صِباها قد مات قبلَ عشرات السنين وما زالت لم تخرج من الصدمة حتى بعد أن تجاوز عمرها الـ٥٠ عاماً، وليس بسبب كونِها تُلقي نصفَ ظلّ على الأرض بشكل ملحوظ خافتٍ عن باقي ظلال الكائنات .. هي شخصيّة مُربِكَة بسبب قبولها لممارسة الجنس مع ابنها كافكا رغم شكوكِها حوله (أو يقينها بأنه ابنها لا أذكر بالضبط).
من جهة أخرى الفتى كافكا ذو الـ١٥ عاماً يهرب من منزل والده بحثاً عن والدته التي لا يعرفها مُحمّلاً بلعنته: أنت ملعونٌ بلعنة أوديب، في يوم ما سوف تمارس الجنس مع والدتك وأختك. كافكا وخلال رحلته تساوره الشكوك حول كل النساء اللاتي يلتقي بهنّ، وتزداد شكوكه إذا انجذب لهنّ جنسياً. حتى يلتقي بالآنسة ساييكي التي تستضيفه في مكتبتها والتي ينجذب لها بشكل كبير ويمارس معها ويدرك أنها أمّه، ليفهم أن لعنة والده قد وقعت عليه بالفعل.
هاروكي موراكامي يوضّح فلسفته فيما يتعلٌق بالأرواح في هذا الأمر، فمن خلال القراءة العميقة للرواية يحكي موراكامي عن أن الأرواح قد تنتقل من جسد لآخر إذا ما تمّ استحضارها ذهنيّاً (وهذه عقيدة بوذية باطلة، لكن سأعتبر أنها تحدث) .. ومن هنا أقتبس لما كان يصفه كافكا خلال العمليّة: “لابدّ أنها تحسبني حبيبها الميّت منذ وقتٍ طويل، ولذا تفعل ما اعتادا على فعله هنا في هذه الغرفة. نائمةٌ تأتي بالحركات التي اعتادتها قبل وقت طويل. أفكّر أنني من الأفضل أن أوقظها، فهي ترتكب خطأ فظيعاً، وعليّ أن أُعلِمها. -هذا ليس حلماً- إنها الحقيقة. ولكن كل شيء يحدث بسرعة شديدة، وليس لدي القوة لأقاوم. أفقد توازني كليّاً ونغوص في دوّامة من دوامات الزمن.” إن الآنسة ساييكي قد استحضرت روح الفتى الذي أحبّته خلال التلامس، وهذا يفسّر كيف رضيتْ بالممارسة مع ابنها، إن الجسد هو جسد ابنها، ولكن روح حبيبها استعارت هذا الجسد .. لذلك في وقتٍ آخر ساييكي الغائبة عن الواقع أخبرت كافكا: “نحن جميعاً نحلم أليس كذلك؟ لمَ كان عليكَ أن تموت؟” وكافكا يُجيبها على لسان حبيبها .. نصف الظل للآنسة ساييكي اكتمل بعد التقائها بكافكا، وكأن موراكامي يرمز لنصف الظل بالروح المحترقة المتعبة التي لا تكتمل إلا بلقاء نصفها الآخر.
وهكذا نحن في واقعنا .. سنبقى أحياءً بنصف ظل ونصف روح إلى أن تكتمل ظلالنا !
عودة إلى الحاضر .. الآن في 2022، أشعر بأنَّني بحاجة لقراءة هذا العمل مرَّة أخرى، لأنني لم أوفِّيه حقه، خاصَّة وأنني الآن بعد 7 سنوات قرأت معظم أعمال موراكامي وكافكا على الشاطئ كانت هي المدخل لهذه الأعمال .. يبدو أنِّي سأعيد قرائتها وأعود إلى هنا للكتابة عنها بشكلٍ مطوَّل أطولَ من أيِّ عملٍ آخر ..