لعبة الملاك

لعبة الملاك ولعنة الشيطان

بدأ آرثر كونان دويل مؤلِّف سلسلة شارلوك هولمز مسيرته ككاتب عندما بدأ بإصدار قصص المحقق الشهير في إحدى المجلَّات البريطانيَّة الرخيصة، وشيئاً فشيئاً ازدادت شعبيَّة المحقق الخيالي، حتَّى صار المعجبون يُرسلون البريد إلى 221B Baker Street مُعتقدين بذلك أنَّهم يُراسلون محققهم المحبوب.

لا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لـ ديفيد مارتن الشخصية الرئيسية في لعبة الملاك، الجزء الثاني من رباعيَّة مقبرة الكتب المنسيَّة لـ كارلوس زافون. حيثُ أنَّ مارتن بدأ مسيرته ككاتِب قصص بوليسيَّة رخيصة في مجلَّة صوت الصناعة البرشلونيَّة، ثم بدأت شهرته بالازدياد، إلَّا أنه، وهذا وجه الاختلاف مع دويل، انتقل إلى دار نشر قامت باحتكاره بعقدٍ مُجحف وثمن زهيد، ومع انغماسه في الكتابة وقع ضحيَّة قصصه وصار يعيش في عالمه الروائي الخاص مُعتقداً أنَّه العالم الحقيقيِّ.

هذه الرواية ضخمة حوالي 700 صفحة، وهي بالتأكيد أضخم من ظلِّ الريح، لكن أحداثها أخف وأكثر رتابة منها، ورتابة مملَّة أحياناً، لكنَّها حافظت على السمة الرئيسية فيها وهي مقبرة الكتب المنسيَّة، رغم أنَّنا لم ندخُل في صيغة القصَّة داخل القصَّة التي أدخلنا فيها زافون في جزءه الأوَّل. بل هيَ قصَّة واحدة بمسار واحد تحتمل الكثير من التفسيرات بحسب القارئ نفسه ووجهة النظر التي ينظر للرواية من خلالها. إنَّها قصَّة عن الكتابة ودوافعها واحتكار دور النشر للكُتَّاب والإيمان والوحدة والوجود والعدم والمرض العقليِّ والعائلة والشياطين والملائكة، نُضيف إلى ذلك الخيال القوطيِّ الذي تمتَّع به الكاتب في وصف برشلونة والأحداث الخارقة للطبيعة فيها، لذا بطبيعة الحال كانت هذه الرواية أكثر كآبة من سابقتها.

أحد اكثر الأمور التي حافظت عليه الرواية هي وجود مكتبة سيمبيري، لكنَّ أحداث الرواية ككل تقع قبل أحداث ظل الريح، لذا نتعرف هنا على جدِّ دانيال الذي لَعِبَ دوراً محوريَّاً في حياة مارتن، ونتعرَّف على أبو دانيال وأمِّه في صباهم. تنتهي القصة في عام 1945 وهو العام الذي زار به دانيال بطل ظل الريح مقبرة الكتب المنسية. في الحقيقة. الفصول التي تظهر بها عائلة سيمبيري ومكتبته الواقعة في شارع سانتا آنا هي أجمل وأمتَع الفصول رغم أنَّها لا تؤثِّر في الحبكة كثيراً وإنما عملت على توجيه بطلنا ومساعدته في أزماته.

لعبة الملاك

لكن، لعلَّ أكثَر ما حافظت عليه الرواية هي المصادفات. فمثلاً، هناك الرجل الفلاني يذهب إلى مقبرة الكتب المنسيَّة ويختار الكتاب الفلاني، وحينما يبدأ بقراءته يكتشف أنَّ الكتاب قد استحوَذ على حياتِه وصار جزءاً منها. هذه الفكرة حاول زافون ترسيخها في روايتيه (حتَّى الآن لم أقرأ باقي الأجزاء لأحكم). لكنَّها، كفكرة جديدة عليَّ، كانت مميَّزة في ظل الريح، بينما صارت مُستَهلَكة ومملَّة في لعبة الملاك.

ثمَّة من يُفضِّل الاعتقاد بأن الكتاب هو الذي يختار قارئه .. القدر، بمعنى آخر.

– لعبة الملاك، صـ 167

وهذا ما حدث بالفعل، فالمصادفات هنا، على قلَّتها، إلا أنني شعرت أنَّها مُبتَذلة لأنَّها -تقريباً- تكرَّرت بذات الأسلوب بين الجزء الأول والثاني على اختلاف الأحداث. فهنا لدينا الكاتب الفذِّ ديفيد مارتن، الذي يُصاب بصدمةٍ بعد أن قامت والدته التي تخلَّت عنه في طفولته بإلقاء كتابه “خطوات السماء” في النفايات، فيُقرِّر إنقاذَه وحفظَه في مقبرة الكتب المنسيَّة، وهناك يختار الكتاب الذي عليه تبنِّيه (أو بالأحرى الكتاب هو من يملك الإرادة ليختار مارتن). عُرِف الكتاب باسم “النور الأبدي” واسم مؤلِّفه مجهول إلَّا أنَّه يحمل حرفَي د. م. وهما -وياللمصادفة- أوَّل حرفين من اسم ديفيد مارتن، ثمَّ بعد عدَّة فصول نكتَشِف -بمحض الصدفة- أنَّ صاحب بيت البُرج الذي يقطُن فيه مارتن يُدعى دييغو مارلاسكا هو من قام بتأليف النور الأبدي على الآلة الكاتبة نفسها التي يقوم مارتن بالكتابة عليها الآن.

لا يتوقَّف الأمر هنا، فمع مرور الأحداث، يلتقي D&D بشخصٍ يُسمِّي نفسَه آندرياس كوريلي ويطلب من كليهما كتابَة دين جديد له، وهنا تبدأ الحبكة الحقيقية للرواية. كوريلي يريد ديناً كاملاً يحتوي على عبادات وطقوس وكتاب مقدِّس وإله، أما نبي هذا الدين فهو ديفيد مارتن وفي الماضي كان دييغو مارلاسكا، وكان قد رصدَ لكليهما مبلغ مئة ألف بيزيتا مدفوعة بالكامل قبل بدء الكتابة، وقدَّم لمارتن التسهيلات كي يُبرم عقداً معه وذلك عبر إحراق دار النشر التي قامت باحتكاره وإجراء عمليَّة جراحيَّة له لينجو من السرطان ويتفرَّغ للعمل على الكتاب المقدَّس الجديد.

لعبة الملاك

جديَّاً، من هو آندرياس كوريلي هذا؟

يُذكَر آندرياس كوريلي لأول مرة في رسالة أرسلها لمارتن أثناء عمله في “صوت الصناعة” كأحد المُعجَبين بكتابته، ثُمَّ يظهر بعدها ليُقدِّم عرضَه لمارتن. للوهلة الأولى، سيعتقد القارئ أن آندرياس كوريلي هو الملاك المقصود بعنوان الكتاب، وهذا صحيح فعلاً. فهو الذي أنقذَ مارتن من العقد المُجحف كما أسلفت، وأنقذه أيضاً من السرطان بشكل عجيب. وخلال الأحداث تدور بينهما نقاشات عميقة لإقناع مارتن الملحد بضرورة كتابة دين جديد ومُرشِداً إيَّاه لهذه العمليَّة المعقدة. لكن هل هو ملاكٌ حقاً؟

“البقاء على قيد الحياة، هذا ما تُركِّز عليه طبيعتنا. الإيمان إجابتنا الوحيدة على مسائل وجوديَّة يصعُب تفسيرها: الفراغ الأخلاقي الذي نلمسه في الكون، حتميَّة الموت، ألغاز أصل الأشياء أو مغزى وجودنا وغيابنا.إنَّها مسائل بدائية وبسيطة للغاية، لكن حدودنا نفسها تمنعنا من الإجابة بوضوح، ولهذا السبب نسعة إلى الإنجاب والتكاثر، كردَّة فعل دفاعية، كإجابة عاطفية. إنَّها محض بايولوجيا … أيُّ تأويل وتفسير للواقع هو مجرد تخييل. المشكلة، والحال هذه، تكمن في أن الإنسان حيوانٌ أخلاقي، منفيٌّ في إحدى زوايا كونٍ لا يعترف بالأخلاق، ومحكوم بحياةٍ فانية ولا معنى لها سوى في تخليد الدورة الطبيعية للحفاظ على النوع، لذا من المستحيل البقاء في حالةٍ مستديمة من الواقع، بالنسبة إلى الكائن البشري على الأقل. نحن نقضي جزءاً كبيراً من حياتنا في الحلم، لا سيما حين نكون مستيقظين. محض بيولوجيا، كما أسلفت.”

– آندرياس كوريلي

لوسيفر أو الشيطان في الموروث المسيحي هو حامل الضياء، كائن نوراني، ملاكٌ ذو أجنحة، كان يتعبَّد ربه في السماء قبل أن يعصيه ويوسوس لـ آدم وحواء، فطرده الله من الجنة. فنصَّب لوسيفر نفسه حاكماً للعالم السفلي مُحاولاً أن يكون نداً لله -تعالى الله عن ذلك- وذلك عن طريق إغواء البشر بشتَّى الأساليب المتوقعة والغير متوقعة. إذاً الشيطان هو ملاك بحسب الثقافة المسيحيَّة (في الإسلام، إبليس حتى وعندما كان في الجنَّة هو من الجنِّ المؤمنين ولم يكن يوماً ملاكاً) لذا لا خلل في العنوان أبداً بما أن الكاتب مسيحيِّ.

بافومت وحركة العصر الجديد

بافومت في الإرث وسحر القبَّاله اليهودية هو ابن إبليس وأحد ملوك الشياطين. وهو الشيطان الموكَّل بإنشاء الأديان المختلفة، أديانٌ ظاهرة كعبادة الشيطان نفسه، وأديان وطوائف غنوصيَّة باطنة كحركات وطوائف العصر الجديد وما يسبقها من معتقدات الهندوسيَّة والبوذيَّة والطاويَّة وجميع هذا الهُراء. يتم تمثيل بافومت عادةً بجسد امرأة ووجه ماعز مع قرنَين كبيرَين، ودينُه هو أشهر دين بين الديانات الشيطانيَّة. هذا العمل ليس مجرَّد رواية اجتماعيَّة ترفيهيَّة كما هو حال الجزء الأول، بل هو توصيف حقيقيٌّ لما يحدُث في العالم حقاً. لكن فيما يبدو أنَّ الشيطان في الرواية قد ملَّ من ذلك الدين، وقرر أن يبحث عن رسول ليكتُب له ديناً جديداً، وكان هذا الرسول هو ديفيد مارتن.

بالمناسبة اسم ديفيد هو الاسم العبريَّ للنبي داوود -عليه السلام- هل هي مصادفة؟ أما آندرياس فهو اسم إغريقيَّ يعني “الرجل المحارب” وهذا وصف ينطبق على الشيطان وعلى الذين يُمجِّدونه، ينظرون إليه بأنَّه ثائر ومتمرِّد .. “المجد للشيطان معبود الرياح .. من قال لا في وجه من قالوا نعم .. من علَّم الإنسان تمزيق العدم .. وقال لا فلم يمت وظلَّ روحاً أبديَّة من الألم”. كما أن أوَّل شخصٍ معروف حمل هذا الاسم في التاريخ كان القدِّيس أندراوس الذي كان أحد أحبار المسيح عيسى -عليه السلام-. هل آندرياس كوريلي هو نفسه القديس أندراوس؟ هل هو شيطان إذاً أم ملاك قدِّيس يريد تبشير الناس وإكمال رسالة المسيح؟ إنها مجرد تساؤلات قد تكون، وهو الأغلب، لا معنى لها. لكن كارلوس ترك للقارئ حريَّة الشطحات القرائيَّة. بالطبع لم يوصَف وجه كوريلي في الرواية، لكنَّ الوصف كان بما معناه أنَّه رجل مُخيف بلا ملامح لا تعرف ما إن كانَ في مزاج جيِّد أم سيء. وهذا وصف يليق بالشيطان أكثر.

لكن لماذا نثق بالراوي أصلاً؟ قد يكون الراوي غير موثوق ومجرَّد كاذب حتى يوقِع القارئ في الفخ. لماذا لا نعتبر أن جميع ما جرى مع مارتن مُجرَّد وهم؟

أعني أنَّ هذا الأمر منطقيٌّ أكثر، فعالم الرواية، حتَّى الآن ومع الجزء الثاني، هو عالمٌ حقيقيِّ، كما أنَّ الفصول الأخيرة قد لمَّحت لهذه الفكرة بعد أن جلس المحقق فيكتور غراندس يستمع لمارتن ثُمَّ قام بالتحقيق حول ادَّعائاته. ليظهر أنَّ الطبيب ترياس صاحب بيت البرج الحاليِّ مُتوفٍّ منذ اثني عشر عاماً، وقد تحوَّل مخبره إلى عيادة أسنان منذ ثمانية أعوام. ومصرف هسبانو كولونيال لم يسمع باسم أندرياس كوريلي. والمرأة العرَّافة ميتة منذ أعوام والمرأة التي التقاها وادَّعت أنَّها ابنه العرَّافة وأنبأته بأخبار مارلاسكا مع ابنه اسماعيل والأدهى من ذلك أنَّها بكماء. كل تلك الأحداث بالإضافة للحريق الذي نشب في دار نشر باريدو وإسكوبياس وانتحار كريستينا، كل تلك الأحداث تؤكِّد أن مارتن ما هو إلَّا مريض عقلي أُصيبَ بالفصام بعد أن قضى شهوراً في بيت البرج غارقٌ بين أوراق “مدينة الملاعين”.

بما أنَّني في الجزء الثاني وحسب من السلسلة، فلا أستطيع تأكيد أو نفي أن زافون أراد خلق عالم فنتازيٍّ موازٍ لعالمنا، لذا أميل لاعتبار أنَّ مارتن مُجرَّد مريض أو واهم. لكن ماذا لو كان زافون يريد أخذ هذا المسار؟ هذا يعني أنَّ مارتن أصبح شيطاناً بدوره، لكن هل شخصيَّتة حقيقية أصلاً؟ هل ديفيد مارتن هو ذاته دييغو مارسلاسكا؟ هل هو ذاته آندرياس كوريلي؟ هل مات مارتن بالسرطان في بيت البرج فحوَّله كوريلي إلى شيطان؟ أم مات في عام 1930 كما تقول شاهدة القبر؟ لماذا عام 1930 أصلاً؟ بعد أن تحوَّل مارتن إلى شيطان/ملاك، هل هو نفسه الذي ظهر في ظلِّ الريح لينُقذ إحدى الشخصيَّات هناك؟

جميع تلك الأسئلة مفتوحة، ولا أعرف هل سيتمّ الإجابة عليها فيما بقي من السلسلة أم لا. لكن، وحتى مع تلك الأسئلة المفتوحة، فبالتأكيد هذه الرواية تستحق القراءة والنقاش حولها لساعات !

اشتراك
إشعار إلى
guest
0 Comments
الأقدم
الأحدث الأعلى تصويتاً
تعليقات مضمنة
رؤية جميع التعليقات

تواصل معي

لأن كل مشروع عظيم يبدأ برسالة، أرسلها الآن، وسأقوم بالرد عليك بأسرع وقت.