دمشق

لجوء سياسي

في حوارٍ سياسيٍّ مع صديق حول الحرب في بلدنا وكيف تغيَّرت وجهات النظَر خلال هذا العقد الفائت، خاصَّة ذلك التغيُّر الفاضح لأولئك الذين دعموا الاحتجاجات في البداية ثُمَّ الآن يدعمونَ القمع. انتهينا بعد أن قلت له وكأن الأمر من المُسلَّمات: «لا تستغرب .. الانتماءات تُباع وتُشترى دائماً وفق المصالح».

أتذكَّر الآن ذلك الحديث في خلال رحلتي للبحث عن انتماءٍ ما، ليست كل الانتماءات سياسيَّة، وليست كل الانتماءات تُباع وتُشترى.

أنا ابن العشرين عاماً من الاغتراب، أتلقَّفُني بين الرياض مدينة الاغتراب ودمشق مدينة الميلاد. فلا أنا الذي أصبحتُ بدويَّاً ولا أنا الذي شممتُ ريح الياسمين.

أتوقَّف قليلاً لأفكر، والدي الذي ترَك انتمائه يغرق في نهر الفُرات، أتقن اللهجة الشاميَّة تماماً مع مدِّ وابتلاع أواخر الكلمات وتحويل الثاء للساء والذال للزال لم يستطع قلبَ القاف للهمزة، وقاوَمت قافُه الغرق وسط حلاوة النهر التي تدفَع الأجسام للأسفل. ووالدتي التي إذا سُئلت أم لم تُسأل تؤكِد للمُرتابين إلى أنها قادمة من أعلى المئذنة، كنايَة عن كونِها من داخل الأسوار القديمة للشَّام. إلتقى والداي في وسط العاصمة العريقة، في شارِعٍ يُسمَّى -وياللسخرية- شارع بغداد. ليُكتَب لابنائهما أن لا انتماء ثابت لهم.

أما أنا، فأنا الآن أتقافَز بين صفحات ومجموعات الفيسبوك السوريَّة، لأجِدني تارةً أُصلِّي في الأموي في مجموعة “شام شريف”، وأدبِك مع الحورانة في “قاموس حوران”، وأغني جوَّا الجِسر في بطَّة في “تراث الفرات”، وأتكلَّم مع القرود في “اللاذقية بيتنا”، وآكل الشاكرية في “حلبية أنتيكا”، وأتحلَّى بحلاوة الجبن الحمويِّة في “أكابر حمص”، وأتسلَّق النواعير في “حماة الآن”.

أُدرِك الفروقات بين اللهجات السوريَّة، وأُتقِن الحديث ببعضها، أعرِف من يستَخدم كلمة “طلِّع” ومن يستخدم “دحِّق” ومن يستخدم “عيِّن”، من يقول “بديش” ومن يقول “ما بدي” ومن يقول “ما ريد”.

أستطيع التفريق بين المدَّات الطويلة للألف والياء لأهالي الشاغور، وتمييزَ أهالي قدسيَّا عنهم، والمفردات الفريدَة لأهالي داريَّا والمعضميَّة ودوما عن باقي الأحياء الشاميِّة. أقدر على التمييز بين كسرة الألف المقصورة لدى الحماصنة والفرق بينها وبين ألف السويِّديِّين وألف اللاذقانيين.

بالتأكيد توقَّفت عن العبَث في الأرجاء، فليس هناك مكان استَطعتُ الانتماء إليه .. ولكنَّني أدركتُ بطريقة ما، أنَّه وحيثما وُجِدت هيَ، وُجِد انتمائي.

اشتراك
إشعار إلى
guest
0 Comments
الأقدم
الأحدث الأعلى تصويتاً
تعليقات مضمنة
رؤية جميع التعليقات

تواصل معي

لأن كل مشروع عظيم يبدأ برسالة، أرسلها الآن، وسأقوم بالرد عليك بأسرع وقت.