
في عقلي دهاليزٌ وممرَّات ملتوية، تضيع فيها خُطاي كما تضيع ذكرياتي. أسير عبرها باحثاً عن مخرج، لكن كل زاوية تقودني إلى أخرى، وكل ممر يزداد ظلاماً .. جدرانها مُغطَّاة بصور مشوَّشة لأجزاء مني لا أجرؤ على مواجهتها، وكل باب أغلقته في الماضي، يعود لينفتح بصوت صريرٍ ثقيل. في عمق كل ممر، صوت خافت يهمس باسمي، يقودني إلى مزيد من الضياع.
في عقلي والد قاسٍ، صوته يملأ الفراغات التي تركتْها محاولاتي للهرب منه .. يحكم قبضته على كل قراراتي، يوجهني نحو طريق لا أريده، ويزرع داخلي خوفًا من كل ما لا أفهمه. حتى بعد غيابه، لم أستطع التخلص من ظله. يقف خلفي دائمًا، يحاسبني على كل فكرة، كل خطوة .. شبحٌ لن يغادر.
في عقلي صورة طبيب شرِّير قام باستئصال أصلِ الحياة مني. بأدواته الباردة، قطع شيئًا كان جزءًا من وجودي، تاركًا فراغًا لا يملؤه شيء .. أصبح الألم مستمرًا لا يزول، وبات جزءًا من كياني.


في عقلي فتاة لا ترحل، تظهر في أحلامي وتعيد لي ذكرياتٍ غير مكتملة، كلماتٍ لم تُقال، ولمساتٍ ضاعت في الضباب. تُجسِّد كلَّ الأشياء التي لم أستطع الحفاظ عليها .. تقف هناك، قريبة بعيدة في آن، تبتسم لي بتلك الابتسامة التي تجعلني أؤمن للحظة أنني يمكنني استعادتها.
في عقلي مدينة ضبابيَّة، أضواء شوارعها خافتة، لا شيء واضح .. العالم محجوب عني بستارٍ من الضباب إيَّاه. أبحث عن مأوى، لكن كل طريق يقودني إلى مزيدٍ من فراغ .. المدينة تعيد تشكيل نفسها مع كل خطوة أخطوها، للمدينة إرادة تجعلها ترفض أن تدعني أجد سبيلًا للخروج.
في عقلي، تتشابك الصور، الأصوات، والذكريات في دوامة لا نهاية لها. كل محاولة للفهم تجرني أعمق في متاهة صنعها عقلي ليعاقبني. لا فكاك من هذا المكان، لا مخرج من هذه الغرف، ولا نهاية لهذا الضباب.


في عقلي جدران متصدّعة، تشهد على كل انهيارٍ داخلي مررت به. كل شقّ فيها يحكي قصة ألم، وكل حجر مائل يذكرني بمعركة خاسرة .. الجدران تقاوم السقوط، لكن الهشاشة تزداد مع كل محاولة لترميم ما تحطَّم. في عقلي خلايا سرطانيَّة تنمو بصمت، تتغلغل في أفكاري وتستهلك كل بقعة أمل. تتكاثر دون رحمة، وتحوُّل كل زاوية مشرقة لظلامٍ قاتم. أراقب هذا الانتشار العشوائي للعطب، عاجزًا عن إيقافه، في عقلي أخوض حرباً بطيئة تنتهي دائمًا بخسارتي.
في عقلي مقبرة أدفِن بها جميع نُسخي التي ارتديتها في محاولاتي العديدة للهرب .. كل نسخة كانت محاولة جديدة للعيش بطريقة مختلفة، وكل واحدة منها انتهت إلى الفناء. تتراكم فوق بعضها، تعلوها شواهد تحمل أسماءً زائفة، وأدوارًا لم تكن يومًا لي .. هنا أدفن الوجوه التي ارتديتها أمام العالم، والأقنعة التي أرهقتني حتى فقدت ملامحي الأصلية.
في عقلي طفلٌ صغير لا ينكفئ عن المحاولة، يُقاوم السقوط رغم ثقل العالم الذي يدفعه نحو الأرض. ينهض في كل مرة، ممسكًا بقطع حلمه المتناثر، عيناه تلمعان بإصرار لا يفهمه أحد .. لا يعرف الاستسلام. يواصل السير في طريق محفوفٍ بالأشواك دون أن تيشتكي، ويجمع خيباته في حوضٍ صغيرٍ ويزرع به وروداً. يظلُّ واقفًا يواجه الريح بوجه مفعم بالأمل، وكأن العالم لم يفلح بعد في كسره.
سمّوه ما شئتم، هذيان، فصام، أو شيء آخر .. لكن بالله عليكم أليس العيش داخل هذا العقل أفضل من الحياة وما عليها؟! هنا الصراعات تنتهي بصمت، والألم مألوف، لا أحتاج للتظاهر بشيء. هنا في عقلي، أنا السجَّان والسجين، أتحرك بين الذكريات والأوهام بألم، لكنني على الأقل أعرف قوانين هذه اللعبة .. هنا، وسط دهاليز عقلي المظلمة، أجد ملاذًا، حتى وإن كان مليئًا بالأشباح.