عيونٌ تُراقب، وعيون تستمع، وعيون تُلاحِظ، وعيونٌ حائرة .. عيونٌ مِلؤها الحماس، وعيون مِلؤها الشك، عيونٌ منتفخة، وعيونٌ لائمة .. عيون باكية وعيون ضاحكة، عيون تختصر الكلمات وعيون تقول شعراً .. الحاصِل أن أمامي الآن أمامي الآن أربعة أزواج، ثمانيَة حدقات، ثمانية عيون، أو عشرة إذا أردتُ حصر الغائب منها والحاضر، اجتمعَت بها جميع المشاعر البشريَّة التي وجدت يوماً.
بنظرة الأم العطوف الحانيَة على أبنائها تنظُر العينَين الأولَتين إلى باقي العيون، وتسكُب دمعاً يتدفَّق كخدشٍ مُدمَّى على طول الخدَّين .. إنَّها تُدرك أنَّها ستكون المرَّة الأخيرة التي ترَ فيها هذه العيون قبل مرور وقتٍ طويل. بل هيَ المرَّة الأخيرة التي سترَ تلك العيون مجتمعةً في مكانٍ واحدٍ في نفس المكان والزمان. تشهَق، وتنتحب، وتتدفَّق الدموع. تلك هيَ الفاتورة التي على الجميع دفعها.
تحاول العينَين الأخريَتين تهدئة العينَين الأُوَل، عبثاً تُحاول، تنظُران نحو عيناي تستنجِد بهما. إنهما عينان هادئتان سعيدتان، بمعنويَّاتٍ عالية، بانتظار حياةٍ جديدة مُرتَقبة وعيونٌ جديدة تُخرجها للحياة في حياةٍ أخرى، بدايةٌ جديدة ممتعة .. لكنَّهما تكذِبان وتدعيان الثبات والسعادة، وهو أمرٌ تدركه جميع العيون الحاضرة هنا. اعتقادٌ ساذج لكي لا تبيضُّ الأعين من الحزن.
الزوج الثالث من العيون لم تظهر عليها علامات الحُزن، إن الحزن الذي في داخلها يخرُج على هيئة غناء أو صراخ أو تنظيف للمنزل. وقد نُظِّف بلاط المنزل اليوم حوالي ثمانية عشر مرَّة حتى اختَنقت كُل العيون من رائحة الكلور، واحمرَّت ذارفةً الدمع .. بسبب الكلور بالطبع.
الزوج الرابع كانت لعينَين صغيرتين، تترقَّب حائرة غير مطمئنة لما يجري، تتنقَّل بين عينٍ وأخرى .. تُرى لماذا يبكي الجميع؟ هل هي لُعبة جديدة؟ إذاً سوفَ أبكي معهم .. ما أجمَل عيون الأطفال التي ترَ العالم ساحة لعبٍ كبيرة وفي كُل حدثٍ فرصةٌ للعب.
وعينايَ هنا مُحيطةٌ بجميع تلك العيون تُراقب بصمت، لا تقوَ على الحديث، ولا تقوَ على النظر المُباشر إليهم، وما إن تلتفت عنهم حتَّى ترَ فرصة للسيلان. العيون لها إرادة حُرَّة، هي التي تُريد أن تبكي، فتنهمر. ويسقُط قناع القسوَة والثبات، وتجهَش جميع العيون بالبكاء.
وهناك أيضاً عينان، لا أحد يراهُما غيري. تبكي لبُكاء باقي العيون، وتحضنهم بنظرتها الغائبة، لم أرهُما سوى لمرَّة واحدة، لكنَّني شاهدتُ ذلك البريق العجيب فيهما، بريق يحتوى على حرارةٍ لاهبة، وفي ذات الوقت يمتاز بهدوءٍ أبديِّ. يوحي بجوهرةٍ ذات خصوصيَّةٍ شديدة، تمتلك مصدَر إشعاع باطني. جوهرةٌ تشهَد صراعاً عنيفاً بين طاقة تتجه للخارج، وأخرى تتجه للاكتمال في الداخل. عينان مُعقَّدتان، مُبهمتان، لا تستطيع التحديد بدقَّة ما ورائهما. لكنَّك تستطيع معرفة أن خلف تينك العينين الكثير من الحب الذي لا ينضب .. تلك العينَين التي ستبيع كُل العيون السابقة لاكتسابها لبقيَّة حياتك.