ما فعلته سبيستون بنا نحن الجيل الأول الذين تربَّوا على أعمالها كان بمثابة صدمة نفسيّة “trauma” بكل معايير الأطباء والمراكز النفسية حول العالم، نحن ذلك الجيل الذي نشأ على قيَم سبيستون الأخلاقيّة العُليا وحملها معه كدرع يواجه به العالم الخارجيّ، ثم في أوّل مواجهة تفتَّت هذا الدرع فباتت صدورنا مكشوفة. ومع ذلك نعود إلى ذلك البيت الدافئ ليُنعشنا ذلك الحلم المستحيل، ويُبقينا على قيد الحياة رغم الموت.
لقد سئمت من هذه الحياة وأريدها أن تنتهي بسرعة بأيّ طريقة كانت، هكذا أقول لأمي، التي تجيبني كعادتها: “لسا يادوبك ما شفت شي منها!” وفي الحقيقة، أنا وغالبيّة أبناء جيلي قد شهدوا وجه الحياة الحقيقيّ التي كشّرت عن أنيابها أكثر من جيل الثمانينيات والسبعينيات وجيل أمهاتنا وآبائنا وأجدادنا.
فنحن أولاً أبناء الثورة التي جاء من أجلها كل شذّاذ الأفاق ليطمسوا هويّتها والتي خشيَ جيل آبائنا أن يقوموا بها، أكبرنا كان في الحادية والعشرين حين قيامها، وأصغرنا في العاشرة وهم الذين أشعلوها في البداية. لقد شهدنا في هذه السنوات الحرب، واستُخدِم علينا جميع الأسلحة البيضاء والناريّة الخفيفة والثقيلة، تجويع، نهب، سرقة، مجازر، تهجير، وزلازل حتّى، نحن من تشرّدنا وقطعنا بحاراً وسهولاً وجبالاً وحدوداً دوليّة حتى بات واحدنا لا يستخدم لغته العربيّة إلّا عبر الانترنت .. ومع ذلك، نعود إلى سبيستون لتستمرّ بإنعاشنا.
نحن من كنا نسير ليلاً في حواري دمشق ونأكل الخبز الساخن على ناصية الطريق ونتأمّل هذا الجمال المسلوب ونحلم بغدٍ أفضل ونمثّل في ساحتها الليليّة مشاهد تخيّلية كي نشعر أن كل هذه التضحيات ستأتي أُكلها بأمر ربها، كي نشعر أن مازال لحياتنا معنى رغم كل اللامعنى.
نحن أبناء الحروب الذين يملكون لغة خاصة نطلّ منها على قعر أرواحنا ولا أحد يفهم أحاديثنا سوى الصمت. قد تدور بيننا أحاديث يراها الآخرون عادية مجرد ثرثرة لمغتربين يجمعهم الحنين والذكريات والأماكن، ولكن الأمر أعقد وأعمق من ذلك فنحن بكلماتنا نصنع مراهم مرممة لندوب لا يراها غيرنا .. نوع من العلاج الجماعي أو الطبطبة على الروح
نحن الحمقى الذين قاومنا كل شيء، ووقف ضدّنا كل شيء، وفشلنا، فاحتفظنا بالفشل كوسام فخرٍ على صدورنا المخدوشة دوناً عن الجيل السابق الذي لم يُفكِّر حتى بالمقاومة، قاومنا كي نموت في الأرض أحراراً ونكتب أننا غيّرنا التاريخ بكل القيَم التي تشرّبناها من سبيستون.
نحن نخلع أنفسنا على طاولات المقاهي والمطاعم وفي الندوات وفي نوافذ المتصفح الإلكتروني، في كل مرة نترك جزءاً منا وندلدل أقدامنا من أعلى غيمة ساخرين من الوضع ومما آلت إليه الأمور في عالمهم السفلي.
نحن مازلنا هنا، ومازلنا نقاوم بالنزر اليسير، فنحن جيل قويّ، لقد شكَّلَنا هذا الحزن حتى صرنا مقاومين للإنكسار، لم نعد بحاجة لمن يمسح دموعنا أو يعزينا، اكتسبنا قوة الخد المصفوع مائة مرة كيف يصيبه خدر غريب .. ستجد في قلوبنا مفاتيح عديدة وصوراً لبيوت يسكنها الخراب وموائد خالية من الطعام ومن الأصحاب .. ستجد في قلوبنا كل شيء يمكن لخيالك أن يرسمه ولكنك لن تجد شيئاً واحداً فقط .. لن تجدنا! تلك القيم والمفاهيم عن الوطن والانتماء كانت نحن ولكنك لن تجدها ولن تجدنا.