
يقول لي أخي بسخريته المعهودة: انتبه تتأثر بانتحاره وترمي حالك وراه .. ما حدا حيقدر يشيلك بعدين ها !
أرفَع شفتي اليُمنى في نصف ابتسامةٍ ساخراً من سخريته المعتوهة، وأقول: هه .. لا تقلق سوف أستأجر رافعةً لتحمل جُثَّتي المفزورة قبل أن أقفِز، هذا في حال لم أجد مكاناً جيِّداً لأموتَ به في سلام ولا يجدني أحد.
أخي ليسَ معتوهاً كجملته التي قالها، بل يعلم تمام العلم أنَّني أُفكِّر بذات الطريقة التي فكَّر بها، رغم أنَّني بالكاد أعرِفه، إلَّا أنني قد عشتُ معه تفاصيلَ لحظاتِه الأخيرة، وحينما سألت والدتي كيف مات؟ حاولتْ إخفاء الأمر عنِّي إلَّا أنني بعد أن خمَّنت أمامها أنَّه قد انتَحر رأيت دمعةً حزينة تنسابُ منها لتؤكِّد لي ذلك.
بي هدوء رهيب .. حالةٌ مزرية من الهدوء الذي لم أُجرِّبه من قبل، ولا ينعكس هذا على حالتي الداخليَّة. ففي الداخل الجميع مستيقظ، يُقيم عقلي مع قلبي محادثات ومفاوضات، هناك صخَب وضوضاء في الداخل، أفكارٌ تعلو كبُرجٍ شاهق وأمواج تتلاطم في رأسي، وحفلات عُريِّ ومجونٍ أودت بي للاتصال بصديقٍ وإخباره عن فكرتي العبقريَّة في انتحارٍ جماعيِّ نُحدد وقتَه وطريقَته .. أو هكذا هُيئ لي أني فعلت، لكن كما قُلت بدايةً أنَّ بي هدوءٌ رهيب .. ليسَ هدوء الحكمة ولا النُضج، ولا هدوء الرحلة ولا حلاوة الوصول، ليس هدوء الحُبِّ ولا الذكريات الجميلة، ليس هدوء الاحتضار ولا هدوء التفكير في المرحلة التاليَة من حياتي، إنَّه هدوء التعب، هدوء لوم النَفس واليأس، هدوء يُخفي وراءه جبلاً من الفشل والقنوط .. هل أنا بمنتصف الطريق أم جاوزته بقليل أم شارفتُ على النهاية أم أني لم أبدأ بعد؟! هل كنت أركض في الاتجاه الصحيح أم كنتُ أدور حول نفسي أم لم أبرح مكاني أصلاً؟!
لطالما تحدَّثت الموروثات الشعبيَّة وحكايا ألف ليلة وليلة عن غلطة الشاطر التي تُعادل ألف غلطة .. غلطة الشاطر حسن، غلطة علي بابا والأربعين حرامي. غلطة التاجر الذي قذَف بنواة التمر في الصحراء ليقتُل بها أبناء الجنيِّ، أغلاطٌ كادت تودي بحياتهم، بيد أنَّهم نجَوا .. لكن لم يحكِ أحدٌ عن الأخطاء التي تلتهم العمَر كُلَّه، أخطاء تجعُل المرء يندم عليها طوال سنين حياته المهترئة أصلاً، أخطاءٌ لو ظلَّ المرء يعتذر عنها إلى يوم الدين لما غُفِرتْ له .. وأنا قد أخطأت، ولا أدرِ ماذا سيُكلِّفني هذا الأمر ..
المرحوم كان رجلاً عصابياً، أكبَر منِّي بعشر سنوات ربما، ولطالما اعتقدتُ أنَّ عمر الـ35 هو العمر المثاليُّ للانتحار أو الموت بسلام، من وصَل إلى هذا السنِّ يكون قد اكتَشف الحياة وعاشها بكل تفاصيلها، تكون حياتُه قد استقرَّت من عملٍ وزوجةٍ وأولاد .. أمَّا الذين يتجاوزون هذا السنِّ ولم يؤسِّسوا لحياتهم واستقرارهم فما الجدوى من إكمالهم؟! بعد تلك السنِّ سيبدأ الجسد بالذبول في دورة حياته الطبيعية ولن يكون هناك أحدٌ يُعينهم .. وهكذا كان المرحوم، وحيدٌ في عالمه، في أفكاره، في مشاعره .. في هذا الكونِ الضخم. انتحر بعد أن أدرك حقيقة أنّه سيبقى وحيداً إلى الأبد، بعد أن أدرك أنَّ اللاجدوى هي كُل ما تبقَّى له .. وحشٌ عملاق يبتلع كُلَّ شيء أمامَه. وعندما أدرك أنَّ الموتَ هو خِلُّه الوحيد وما ينتظره يوميَّاً، حينها فقط قرَّر لطم الوجود بصفعة الانتحار، صفعةٌ تصُّم بها أذنه .. ياله من فعلٍ عظيم ذاك الذي قام به، مخرجٌ سريع للانعتاق من ساديَّة هذه الحياة .. كم أحسده عليها وكم أرثي روحي الضعيفة أسيرة هذا الوجود اللعين .. معلوماتٌ بسيطة تلك التي أعرفُها عنه، إلَّا أنها جعلتني أتنبَّأ بانتحاره .. معلومات تودي بي لسؤال طالما تجاهلتُه، متى سأصفع الوجود بدوري أيضاً؟
أعتقد أنني اكتفيت من الحياة .. أعني أنني قد عشتٌ حيواتٍ كثيرة عبر الكتب العديدة التي قرأتُها، والأفلام اللانهائية التي شاهدتها .. أتذكَّر قول الكاتب الرطيان بهذا الشأن: “بإمكانك أن تشعر بصقيع موسكو، وتشم رائحة زهور أمستردام، وروائح التوابل الهندية في بومباي، وتتجاذب أطراف الحديث مع حكيم صيني عاش في القرن الثاني قبل الميلاد! بإمكانك أن تفعل كل هذه الأشياء وأكثر، عبر شيء واحد: القراءة”.
لابدَّ وأنَّ كُتَّاب السيناريو عباقِرة، حينما يُقرِّرون قتل شخصيَّة ما، يقومون بإضافة الطابع الدراميِّ في حياتها، يُحاولون ربط المشاهِد أو القارئ عاطفيَّاً عبر إضافة تاريخٍ شخصيٍّ له أو التركيز على علاقتِه مع حبيبته أو عائلته. وهكذا حين يشدُّوا وثاق الارتباط بوووم تأتي المفاجأة ويقتلون تلك الشخصيَّة التي أحببناها وعشنا معها تفاصيل حياتها.
عندما سُئل العقاد سبب قراءته .. قال تلك الجملة الشهيرة: “لأن عندي حياة واحدة في هذه الدنيا”. بالتأكيد لم يكُن هناك أفلامٌ عاليةَ الجودَة في زمنه، حيثُ أنَّ المرئيات كما القراءة تعطيكَ لذَّة عيش حياةٍ أخرى .. لقد عشتُ حياة التشرُّد مع آريا ستارك وما زلت أذكُر الصفعة التي وجَّهتُها نحو جبهتي حينما أعدموا والدها، لقد صعدتُ إلى الفضاء مع الكابتن كوبر وأخذتُ جرعة هروين عالية في مرثيَّة الحُلم، حلّقت بالمكنَسة مع هاري بوتر وارتكبتُ جريمةً مع راسكولنيكوف وانتظرت جودو مع إستراجون وفلاديمير وخرجتُ من معطف غوغوول، هربتُ من منزلي مع كافكا تامورا ورثيت صديقي وحبيبتي مع واتانابي، ورأيت في السماء قمرين في الحديقة التي جلس بها تانغو .. لكن في الحقيقة، ورغم أنَّني عشتُ تفاصيل تلك الحيوات إلَّا أنَّ تأثيرها لا يستمرُّ سوى بضع ساعات، أو أيَّام في حالاتٍ نادرة جدَّاً.
لقد خُضت مُغامرةً في أيامي الماضية عشت خلالها حياةً أخرى بكامِل تفاصيلها: بسعادتها، واكتئابها، وأحزانها، وأفراحها، بلياليها السوداء، برائحتها، بقهوتها، بأمطارها، ببكائها ونحيبها، بفرحتها وحُبِّها، بأغانيها وأشعارها .. لطالما رغبت بخوضِ غمار هذا الأمر، رغبتُ باكتشافها، واكتشاف العالم بها، لطالما رغبت بإعادة اكتشاف ما أعرفه عن العالم .. لقد سئمت عالمي، انتهيت منه .. أمَّا هي .. فهيَ الخرافة التي تجاوزت حدود ذكائي ومنطقي، الخرافة التي طالما انتظرتها ..
حُب؟ هممم .. إنه قرار يستدعي التفكير بشأنه أكثر من الانتحار. كيف للمرء أن يسمح باختراق بقعته الآمنة التي يستلقي فيها عارياً من كافة الأقنعة التي يرتديها طوال الوقت مُضطراً؟ وهل لإنسان أن يتحمل رؤية آخر دون تلك الأقنعة؟ أن يتحمل القُبح الكامن في كل نفسٍ بشرية من رياء وجُبن؟ إنه لأمر بالغ التعقيد لكنَّه قد وقع .. أو ارتقينا به. لقد عشتُ حياتين كامِلتين .. وأظن أنَّني اكتفيت ..
أُفكِّر في كلمة أخي الخبيثة .. ما الذي حمَله على ذلك القول؟ لقد غادرتني جميع تلك الأفكار السوداء منذ زمن بعيد لا أكاد أذكُر منه شيئاً، ومررت بمراحل عديدة مختلفة كانت أفكاري في كل منها تكاد تكون على النقيض من الأخرى .. لكنني الآن هادئ، هادئ وأشعر بالرعب أيضاً .. فلم يحدث لي أن تمسكتُ بالحياة هكذا من قبل، إنه شعور بالذعر لم أعتده .. تبدو لي ذاتي غريبة وغير مألوفة، فمقدار السعادة الذي جلَبَته لحياتي قد أفتك بأسوار عالية من الحزن بنيتها لأشعر بالحماية على مدار السنوات، أسوارٌ لم أفكر قط في تسلقها لرؤية ما خلفها .. أخشى الموت الآن كحيوان جبان، بعدما كنت أقترب منه منتصب القامة. أنا عاري الآن إلا من حبها لي .. وأفكِّر أن خطأي الذي لن يُغفَر هو ما سيدفعني للتفكير في الطريقة المثلى للانتحار من جديد .. وبالتأكيد لن تكون طريقتُه في القفز من الدور السابع أحد الخيارات أمامي .. ميتة شنيعة كتلك لا أستحقها ..
على كل حال .. لا يزال سقفُ الغرفة مطليٌّ بالأبيض، ولا يزال صدري يصعد ويهبِط، ولا تزال قدماي تحمِلانني لإكمال الركض، ولا تزال روحي طوَّاقةً للوصول.

روعة سامسا..