تلك الكلمات التي لا نقوى على البوح بها .. إلى أين تذهب؟ إلى ماذا تؤول؟
كثيرةٌ هي الكلمات التي تُقيِّدها اللغة، فلا تقوى الحروف ولا الجُمَل على تكوينها، كلماتٌ مُبعثرة من الصعب ترتيبها كأن تُحاول تركيب لوحة puzzle من ألف قطعة. لذا تظلُّ حبيسةً في الداخل يرعاها القلب بكل ما فيها من شتاتٍ وفوضى ..
ثمَّة كلماتٌ ساخرة تحوِّلِّ الناس والحياة من حولنا إلى رسم كاريكاتيري، تعيد تشكيل الظلال والفراغ والأصوات التي لا نراها بعيوننا القاصرة .. السخرية فن يطيل أنف الذاكرة وربما يرسمها بعينين جاحظتين وصلعة منيرة مما يدعو إلى الضحك .. الضحك كنوع من المراوغة لجعل الأيام أقل حدة وأقل مرارة. السخرية ليست رديفاً للاستهزاء كما قد يظن بها سوءاً، بل على العكس تماماً، السخرية حب باذخ العطاء، السخرية جرعة مسكنة وموقفة لنزيف لم تجد معه أنواع الإرقاء الأخرى فجاءت هي كمسعف في آخر لحظة.
ثمَّة كلمات خائفة مرتعشة، حبرها أسود ورموزها أرقام غالباً: رقم زنزانة؛ رقم معتقل أو رقم براد للموتى أو شهادة وفاة .. أسماء القتلى في المجزرة وأسماء الغرقى على أحد قوارب الموت، وأرقام اللاجئين في دول الجوار .. على الأرجح نحن نكمل الطريق وبعض الفقد يرافقنا يضع يده المشلولة على كتفنا، وكل ما نفعله أننا نواصل المسير وفي تماهينا الأليم مع الفاجعة نعتاد تدفق الأسماء والأرقام كنهرٍ غزير بينما نكتفي بالمشاهدة ..
ثرثرتُ كثيراً صحيح؟ هذا لأن ثمَّة كلمات لا يمكن البوح بها .. كأن تقول الكثير من الكلمات المبعثرة لكن لا تقول ما تودُّ قولَه بالفعل !
ثمَّة كلماتٌ ظاهرها العطف والحنيَّة وباطنها المكر والخداع، كأن يمدحك أحدهم باستهزاء تفهم من خلالها أنَّه يذمُك، أو يذمُّك لأنه أراد لكَ الخير .. وثمَّة كلماتٌ تُظهِر عكس ما تبطن .. كأن يقول لكَ أحدهم أغرب عن وجهي في الوقت الذي يريد ان يقول لكَ فيه أرجوك ابقَ معي ولا تتركني .. ثمَّة كلماتٌ تتحوَّر بمرور الوقت، حياءً أو خوفاً أو كبرياءً ربما، ليس لأننا لم نجد مُرادفاً لها، لكن كي لا تفقد المعنى حين تُقال، فتقول أفتقدك عوضاً عن اشتقتك أو عذراً عوضاً عن سحقاً أو تباً ..
ثمَّة كلماتٌ فوق الكلمات، قبل المعاني والألفاظ، تتجلَّى لصاحبها فترعده وتُثلِجه، تحرقه وتُدفئه في ذات الوقت .. كلمات تبلغ بروحك مرحلة التجلِّي فتستشعر قلق كاتبها، تسمع صوت أنفاسه وهو يحيك التفاصيل وينسكب بذاته بكل ما تحمله من إرهاصات وقلق وخوف ..
ثمَّة كلمات تملك عيوناً وأيد تمتد إلى قلبٍ مرتجف فتضمه حتى تكاد تكون أقرب إلى رئتيه من الهواء .. ثمَّة كلماتٌ تتجاوز اللغة، تُخاطِب روحك بشكل مباشر دون حواجز، تلامِس أعمق ما فيك .. تحتضنك .. تُقبِّل جبينك .. وتهمس: أحبك .. وتغادر بسلام.