الإنسان ، هو الكائِن الوحيد الذي لديهِ قيَم ومبادئ اتجاه الحياة والأشخاص والكون كُلّه .. تختَلِف هذه القيَم من شخصٍ لآخر ، فهناك أشخاص مثلاً قيمَتُهم الأساسيّة هي رعاية أولادِهم وأولى أولويّات حياتِهم ، بحيث يُركّزون فقط على هذه المُهمّة ولا يُعيرون قِيَم شخصٍ آخر أيّ اهتمام .. هذا التناقُض هو الموضوع الأساسيّ لفيلم Three Billboards Outside Ebbing, Missouri.
تحكي القصة عن الأم ميلدريد التي تتعرّض ابنتها للاغتصاب والقتل ويبقى ملف القضيّة مُعلّقاً بأيدي الشرطة بـ7 شهور دون الوصول للقاتل أو التقدّم خطوة واحدة، هنا تقوم ميلدريد بطريقة مبتكرة لتحريك القضية وذلك باستئجار 3 لوحات إعلانيّة مهجورة وتقوم بكتابة عبارات عليها تستفزّ فيها الشُرطة وتتهم رئيس الشرطة بعدم اهتمامه بقضيّة ابنتها.
في الوقت الذي تستأجر فيه ميلدريد اللوحات وتقوم بجذب انتباه جميعِ من في البَلدَة بما فيهم الشُرطة والإعلام ، وتصير حديثاً يتداولُه الجميع ، تجذِب إليها المشاكل والألفاظ الشنيعة والعُنف في بعض الأحيان ، خاصّة وأنها تتهّم رئيس الشُرطة بالتقاعُس عن أداء واجِبه ، هُنا تظهر المُشكلة الأولى ، فرئيس الشُرطة يتضّح أنه مُصاب بالسرطان وهو في أيّامِه الأخيرة .. فأنا كمُشاهد ، عليّ إظهار التعاطُف معه أو معها ؟! .. في الوقت نفسِه ، تتعامل ميلدريد ببرود وعصبيّة وغضب وتهجّم مع مصائبها مع قليلٍ من الصبر وكون الغَضب مُفيد في بعض الأحيان .. في الحقيقة هذا كان الطابَع العام للفيلم على مدار ساعتين ، ولكنّي لم أشعُر أن هذه الرسالة التي أراد الفيلم تقديمها .. بدلاً من ذلك يُقدّم الفيلم موضوعاً آخر: الانحياز المعرفيّ والتناقض في ازدواجية المعايير الذي نَختَبره كبشر حول مبادئنا وكيفية التعامل مع تلك القيَم.
في الحقيقة شخصيّة ميلدريد المُعقّدة تحتاج للكثير من الشرح ، ويمكن تأليف عدّة كُتب من خلالها .. فمن الواضح بأنّها يائسة ومُتألّمة وكاتمة لآلاف الصرخات الغاضبة داخلها بسبب ما جرى مع ابنتها ، وهيَ مُحقّة في ذلك بطبيعة الحال .. وهيَ أيضاً ضحيّة لزيجةٍ فاشلة انتهت مع طليقِها ، وتسعى جاهدة من خلال العَمل في متجر خُرداوات مع أجرٍ ضئيل للاعتناء بطفليها .. هذه الظروف أحد أسباب بُؤسها ، على الرُغم من أنّ الفيلم لا يشرحها بطريقة مُباشرة .. ثُمّ في مشهد فلاشباك/استرجاع فنّي واحد نرى العلاقة المُعقّدة بينها وبين ابنتها ، وحضور مشاعر القسوة والغضب أيضاً في ذلك المشهد ، حيثُ تخرج ابنتها ذاهبةً سيراً على الأقدام بعد أن رفضت إعطائها مفاتيح السيّارة قائلة: “أتمنى أن أُغتَصَب على الطريق” لتردّ عليها أُمّها في لحظة غضب : “وأنا أتمنّى ذلك” .. هذه ليسَت كلمة تقولُها أمّ مرّت بيومٍ سيئ ، بل هي حياةٌ سيئة بالكامل .. إنّها انتقاميّة وغاضبة وغير ناضِجة ، ومع ذلك في ذات الوقت فهي صارمة وعاطِفيّة .. امرأة رماديّة ، نُريدها أن تنتصر في قضيّتها للخفيف من حدّة الوحدة والغضب ..
البحث عن قاتل/مُغتَصِب ابنتها هي القيمة الأساسيّة التي تُحرّك ميلدريد في الفيلم .. هذا يعني أن تتّبع مبادئها أيّاً ما كانت النتيجة ، فهي تظهر أنّها قاسية على الجميع تقريباً ، مما يتسبب في ضرر عاطفي ونفسي لابنها ، وتعريض أرواحٍ للخطر ، وتدمير المُمتلكات ، وأخيراً عدم مُراعاة شعور الآخرين .. هذا ما سبّب تناقضاً في شخصيّتها .. فهي تسعى للتمسُّك بمبادئها مُتجاهلةً بذلك القيَم التي تثحرّك الناس حولها ..
يتضّح هذا أيضاً من خلال الشخصيّة الرئيسية الثانية في الفيلم ، الضابط جيسون ديكسون ، مبادئه عبارة عن الاعتداء الجسدي على مواطن أو الاعتداء اللفظي على أشخاص من لون مختلف ، يَعتبر هذا واجبه لحماية وخدمة سكان البَلدة .. بطبيعة الحال ، ينهار عندما يسمع خبر انتحار رئيس الشُرطة المفاجئ ، وكأنه يقول في نفسه: “أفضل ما يمكنني تقديمه الآن لتكريم ذكرى الرجل هو الذهاب للعمل وأن أكون شُرطيّاً جيّداً” ، فيقوم بعدها بيضرب مواطن بريئ تمامًا ويرميه من نافذة من الدور الثاني في حالة من الغضب. في المشهد التالي ، يظهر متفاخراً مع ضباط آخرينعلى تصرفاته كما لو أنه يعتقد أن الفعل نفسه كان مثالًا على “كونه شرطياً جيداً” .. هنا تظهر ازدواجيّة معاييره وتناقضه ، في مشهد ساخر وصادِم ومصنوع بإتقان !
حتّى قِسّ الكنيسة لم يسلم من ذلك التناقُض ، ففي المشهد الذي يزور فيه القس منزل ميلدريد ليُقنعها بإزالة تلك اللوحات، يخبرها أن الجميع يتعاطفون معها بقضيّتها ، ولكنّهم يُخالفونها بتصرّفها .. تردّ بوجهه وتصفه أن رجال الدين يرتبكون الجرائم تحت سقف الدين ، هذا يجعلهم بطريقة ما مُشابهين لعصابات المافيا .. في هذا الفيلم ، لا أحد يفلت من الازدواجيّة .. يدور هذا الفيلم حولنا جميعاً بطريقة أو بأخرى ، وكيف يمكن للإيديولوجيا أن تعمينا عن التناقضات وأحياناً الإساءات التي ننخرط فيها لدعم هذه الإيديولوجيات.
الشخصيّة الرئيسية الثالثة رئيس مخفر الشُرطة ويلوبي ، والتي تتهمه ميلدريد بالتقاعس عن إيجاد المجرم والتحقيق الفعليّ في قضيّة ابنتها .. ليظهر على مدار الأحداث أن ويلوبي أبٌ عطوف وزوجٌ مُحبّ ، كما أنّه مُصاب بالسرطان وهو يحتضر في أيّامه الأخيرة .. ليقتُل نفسه في النهاية ويضع حدّاً لعذابه ، ليسَ بسبب اللوحات الإعلانية كما سيظنّ أهل البلدة ، بل لأنه زرع في ذاكرة زوجته وطفلتيه ذكريات جميلة ولا يريدها أن تُمحى .. هنا يُقدّم لنا مارتن ماكدونا أجمل مشهد إنتحار على الإطلاق ، مشهد مُفاجئ وغير مُتوقّع أبداً .. فحتّى عند موته وضع ملاحظةً على لزوجته أن لا تفتح الكيس خوفاً على مشاعرها ..
بنهاية الفيلم ، يبقى مشهد واحد ، اجتماع ديكسون وميلدريد تحت هدف واحد ، قتل شخص ما لأنه قَتَل واغتصب فتاةً ما تماماً كما حدث مع ابنتها ، طبعاً النهاية بقيَت مفتوحة ، لكن وللحظة يؤكّد الفيلم على ازدواجيّة المعايير ، كما تتضح الصورة حول الفكرة الثانية للفيلم ، أن الغضب يُولّد التعاطف ، وأنّه ضروري لحياة الإنسان ..