كتاب اللاطمأنينة

تراتيل من الكتاب المُقدَّس للطائفة العبثيَّة

 

قد يبدو العنوان ساخراً أو هزليَّاً، ولكنني حقاً أعتقد أن العبثية صارت اليوم بمثابة طائفة دينية، وحيث أنهم كذلك، فكما جرت العادة هناك كتاب مقدس لكلِّ طائفة.

بدأت قصتي مع العبثيَّة منذ بضع سنين عندما اصطدمت مع الحياة لأول مرة، ربما كان ذلك بسبب الرغبة في التمرد التي يمرُّ بها كل فرد فينا، قرأت حينها جميع الكتب العبثيَّة التي وقعت تحت يدي، بدءاً من جبران خليل وجبران وأشعار إيليا أبو ماضي ومروراً بكافكا وويلسون وشوبنهاور ونيتشه وكامو وغيرهم، حتَّى تشبَّعتُ بالعبث واللامعنى.

بالتأكيد لستُ هنا لسرد قصة حياتي المثيرة، لكن وبعد بضع سنين من الحياة العابثة، وجدتُ الكتاب المقدس للعبثيين حول العالم، هو المرجع المثالي لأي شخصٍ يودُّ البقاء في اكتئابه وعبثيَّته، وفي الحقيقة أنا لم يبقَ في ذاكرتي من تلك المرحلة سوى هذا الكتاب، صحيح ما زلت أذكر المشاعر التي انتابتني عندما قرأت الانمساخ لكافكا مثلاً، وما زلت متذكراً لبداية رواية الغريب كيف ماتت أمه ولا يدري متى أو أين ماتت، لكن يبقى كتاب اللاطمأنينة للشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا الأثر الأكبر في نفسي. الكتاب ضخم ومليء بالسوداوية والاكتئاب والعبثية واللاأدرية، النسخة العربية الكاملة منه أكثر من 500 صفحة، وهذه الصفحات تُلخِّص الأفكار العبثيَّة.

صحيح انني تركتُ العبثيَّة منذ سنتين على الأقل وحددتُ مسار حياتي وطريقها، لكنني حتى اليوم حينما أشعر بالحزن يكفي ان أفتح ذلك الكتاب واقرأ بضع سطور منه ليُشعرني ان حياتي ليست بهذا السوء أبداً، بل حتى أن الحزن الذي أشعر به له سبب معلوم وبداية ونهاية وليس كحزن العبثيِّ الذي يحب الحزن لأجل الحزن نفسه.

أخيراً، أحدهم قال يوماً: الحياة عبثية ولا يمكن نكران ذلك، لكن وجود الله ألغى هذه العبثيَّة.

على كل حال .. هذه الصفحة سوف أخصصها للاقتباسات و”التراتيل” التي أقرأها في هذا الكتاب بين حين وآخر .. لذا هذه الصفحة سيتم تحديثها باستمرار طبقاً للحالة المزاجية العامة لصاحب هذه المدونة.

الحالمون بالممكن والمنطقي القريب يثيرون شفقتي أكثر من الحالمين بالبعيد والغريب. الحالمون بالكبير، هم إما مجانين يؤمنون بما يحلمون محققين بذلك سعادتهم الخاصة وإما هذيانيون بسطاء ممن يمثل الهذيان بالنسبة إليهم موسيقى روحية تهدهدهم بدون أن تقول لهم شيئاً. لكن من يحلم بالممكن لديه دوماً الإمكانية الواقعية لخيبة الأمل الحقيقية. لا يمكن أن يؤثر فيَّ كثيراً لو تخليت عن أن أكون إمبراطوراً رومانياً، لكن يمكن أن يؤلمني عدم قدرتي على محادثة الخياطة التي تجتاز، حوالي الساعة التاسعة صباحاً، الزاوية اليمنى من الشارع. الحلم الذي يعدنا بالمستحيل يحرمنا منه بمجرد الاستسلام للحلم. لكن الحلم الذي يعدنا بالممكن يندرج في الحياة الفعلية ويفوض لها إمكانية تحقيقه، الأول يحيا منفصلاً ومستقلاً؛ الثاني خاضع لاحتمالات الحدث.

بالنسبة إلى من يعيش في الأحلام، ماذا يمكن أن يُمثِّلَ حب امرأة سوى حلم من الأحلام؟!

لقد جرَّبت العشق […]: لم يكن للحب المؤقَّت بالنسبة إليَّ طعمٌ آخر سوى تذكُّر ذاك الذي افتقدته.

طعم آخر. صـ 271

أنا لا أمتلك جسدي، كيف يمكنني أن أمتلكه؟ أنا لا أمتلك روحي، كيف يمكنني أن أتملكها؟ أنا لا أفهم روحي، كيف سأفهم من خلالها؟

انطباعاتنا تمر، كيف نتملكها إذاً؟ هل يمتلك أحد نهراً يجري أو ريحاً تهب؟

نحن لا نمتلك جسداً ولا حقيقة، ولا حتى وهماً من الأوهام. نحن أشباح من أكاذيب، ظلال من أوهام وحياتنا فارغة من الداخل والخارج. أيعرف أحد حدود روحه حتى يكون بمقدوره أن يقول: انا هو أنا؟

لكنني أعر أن ما أحسه، أحسه أنا.

أنمتلك شيئاً نحن؟ إذا كنا لا نعرف ما نحن، فكيف نعرف ما نمتلك؟

أشباح وأكاذيب. صـ 536
اشتراك
إشعار إلى
guest
0 Comments
الأقدم
الأحدث الأعلى تصويتاً
تعليقات مضمنة
رؤية جميع التعليقات

تواصل معي

لأن كل مشروع عظيم يبدأ برسالة، أرسلها الآن، وسأقوم بالرد عليك بأسرع وقت.