بدون لكن ..

تعلّمت مبكراً في حياتي أن لا أبرّر فشلي أمام الأيام التي ماتفتئ تعصف بي .. كان هناك ذلك الشخص في طفولتي الذي يُبرر دنائته ومنقلب أفعاله بكونِه مظلوم وأنّ حُسن النيّة تُجزئ عن الغباء وسوء الأفعال. شخصياً، لم أكُن أراه سوى شخص ضعيف خنوع يرمي فشله على الآخرين هرباً من المسؤولية. لذا، في يوم ما، في لحظة ما، قررتُ أن لن أكون مثله أبداً.

ولكن ..

إذا كانت المواقف تأتي كنتيجة مباشرة وطبيعية لسلسلة من الأحداث والانفعالات، فإن إمعان النظر بأي موقف حياتيّ مهما كان صارماً وقاطعاً، يخفي بداخله “لكن” صغيرة تبتسم بخبث كمن يتوعد بالانتقام وقلب الموازين .. فحين أنظر للصورة الكاملة، الصورة التي كانت ناقصة في طفولتي، يتبدّى لي أن هذا الشخص لم يفعل سوى ما كان متاحاً وما كان قادراً على فعله ..

ذكيّة هي هذه الـ “لكن” وماكرة حين يستعملها عملائي مثلاً، يمتدحون عملاً ما ويرفعونه عالياً إلى السماء، ثُم حين ينطقون بهذا الكلمة السحرية يقذفون به إلى الهاوية ليُمحى كل هذا المديح الذي سبَقه، “لكن” تجبّ ما كان قبلها.

الـ “لكن” لديها قدرة كبيرة على قلب الطاولة على كل الحضور، كما أنها تجيد الاستعطاف والعزف على لحن القلوب حين تبدأ بها عبارة كـ: ولكنني لم أقصد! أو لكنني أحبك! هي أكثر رحمة حين تكون في المقدمة وكأنها لا تقبل إلا القيادة.

لا يكاد يخلو موقف من “لكن”، تأتي مُصاحبةً جميع أحداثنا كفتاة صغيرة لئيمة تمسك أيدينا وحيثما نذهب تذهب. حتّى في الحروب والمواقف الإنسانيّة حيث تتلاشى الفروقات بين البشر في مواجهة الموت .. “نحن نقوم بإجلاء جميع البشر هرباً من هذا الزلازال ونقدّم مساعدات للجمبع، لكن أنت من جنسيّة مختلفة، للأسف لا نستطيع ذلك!

يالها من كلمة لعينة تُفقد الأشياء بريقها وتزيد من الحسرة وطغيان الأيام. كم مرّة قلت لنفسك “لكن لا بأس” وكل البأس فيك؟ كم مرّة حاولت استدراك مشاعرك عبرها ظنّاً منك أنها ستمسح على قلبك مسحة أمٍّ عطوف يا مسكين؟ كم مرّة أردت خوض تجربة جديدة لكن الـ لكن منعتك؟

ما أريد قوله بصدق أنني أريد أن أحبك بدون لكن. بدون قيود ولا استعطاف ولا استدراك ولا قواعد ولا انكسار ولا خوف ولا تفكير.

أما عن نفسي، فأنا أريد أن أعيش بدون “لكن” أيضاً .. لكن في الواقع، ذلك الطفل الذي يريد العيش قد مات.

اشتراك
إشعار إلى
guest
0 Comments
الأقدم
الأحدث الأعلى تصويتاً
تعليقات مضمنة
رؤية جميع التعليقات

تواصل معي

لأن كل مشروع عظيم يبدأ برسالة، أرسلها الآن، وسأقوم بالرد عليك بأسرع وقت.