الورد القادم من السماء

الورد القادم من السماء

للمرة الأولى منذ أربعة عشر عامًا، ترمق دمشق سماءها بعيون لا تترقب الموت، ولا تحسب حسابًا لقذيفة غادرة أو برميل متفجر. المدينة التي كانت تنام وتصحو على صوت الطائرات، لم تعرفها يومًا إلا قاتلة، لم تسمع منها إلا هدير الرعب، ولم تر منها إلا الظلال التي تسبق الجحيم بلحظات. لكن اليوم، في ذكرى انتصارها، حلّقت الطائرات فوقها بلا خوف، بلا هلع، بلا وجوه ذاهلة تبحث عن مأوى. هذه المرة، لم تفتح الأرض أفواهها لابتلاع أجساد جديدة، لم يرتفع الدخان ككفن كثيف يبتلع السماء، بل سقطت الورود، خفيفة، هادئة، تحمل في عطرها رسائل ناعمة مطمئنة، تهمس في أذن كل بيت، وتربّت على كتف كل من نجا.

هذه الذكرى الأولى بلا قصف، بلا موت معتقل في الأقبية، بلا أنين مهجّر يودع داره على عتبة المنافي، بلا نظرات خوف تترصد الجدران خشية أن تكون فيها آذان. هذه الذكرى الأولى حيث الساحات لا تضج إلا بالهتاف، وحيث الحناجر التي كانت تخشى حتى الهمس، تصرخ اليوم بأسماء الأحبة الذين غابوا، ترفع صورهم، وتكتب أسماءهم بالياسمين على جدران تحررت من صمتها .. هذه الذكرى الأولى التي لا تملأها الخسارات، التي لم يولد فيها شهيد جديد، ولم يختفِ فيها شاب في زنازين لا أبواب للخروج منها. هذه الذكرى الأولى التي تقف فيها دمشق تحت الشمس، وجهها مكشوف بلا خوف، وساحاتها مفتوحة بلا حواجز، وصدى الهتاف فيها لا يرتد كأنين، بل يعود كرجع انتصار، كأن الأرض نفسها تردد وراءهم، كأن الشهداء الذين رحلوا يرفعون معهم أصوات من بقوا، كأنها ليست مجرَّد لحظة، بل بداية جديدة، حياة لم تعد مدينة بالموت لأحد.

كيف يمكن لبلد أن يولد مرتين؟ كيف لمدينة مذبوحة أن تعود فتنفض عن وجهها الغبار والدم، وتمسح وجنتيها بماء النهر، ثم تخرج إلى العالم بقلب نابض؟ كيف لمدينة ظنها الطغاة قد ماتت، أن تعود للحياة من جديد، أن تكتب سيرة أخرى، سيرة لا تبدأ بالقهر ولا تنتهي بالطغيان؟ لا يعود المرء من الموت إلا بمعجزة، وها هي دمشق، معجزة من لحم ودم، تستعيد روحها من تحت الركام، تتنفس كما لم تتنفس من قبل، تسير نحو الغد الذي كان محظورًا عليها، تتطلع إلى السنوات القادمة كما يتطلع العاشق إلى وجه من يحب بعد فراق طويل.

كلما أغمضت عينيّ تخيلت هذا المشهد: دمشق من علٍ، الشوارع مترعة بالناس، الوجوه التي كانت تغمرها الحزن والخيبة، تشرق الآن كأنها أبصرت النور للمرة الأولى. من الأعلى، تتساقط الورود، تمتزج بألوان الأعلام التي خفقت أربعة عشر سنة في المنافي والمخيمات، تعود الآن لتزين المدينة، لتعيد تعريفها، لتكتب لها سيرة أخرى، سيرة لا تبدأ ولا تنتهي بالطغيان.

اليوم، نكتب الذكرى الأولى للحياة، الذكرى الأولى التي لم يُسحق فيها صوت، ولم يُكمم فيها فم، ولم يُرغم جسد على التواري خلف الأسوار. اليوم، دمشق تحتفل، ونحن – الذين أبعدتنا الحدود – نقف في أماكننا البعيدة، نحاول أن نلتقط بعضًا من عبير الورود التي هبطت عليها، نحاول أن نكون جزءًا من هذه اللحظة، ولو بحزننا، ولو بحسرتنا، ولو بدعاء يرفرف مع الريح، ليحط هناك، حيث الوطن يتنفس بعد طول اختناق.

اشتراك
إشعار إلى
guest
0 Comments
الأقدم
الأحدث الأعلى تصويتاً
تعليقات مضمنة
رؤية جميع التعليقات

تواصل معي

لأن كل مشروع عظيم يبدأ برسالة، أرسلها الآن، وسأقوم بالرد عليك بأسرع وقت.