سيارة تحمل هدايا

الهديّة

كُنت أودّ لو أن ابنتي عرفَت من هو والِدها، كنت أودّ لو أنّها قابلتني، بعد عشرين عاماً من القطيعَة، عشرين عاماً من تفويتِ حفلاتِ عيد ميلادها وقضاء الإجازات والأعياد معها ..

كُنت شابّاً طائشاً جباناً حينما وُلِدَتْ، لم أكُن قد تخرّجت من الكُليّة بعد، تخلَّقتْ ابنتي إثر نزوةٍ شيطانيّة رعناء مِن كِلينا .. رَفَضت صديقتي إجهاضها، فاضُطررتُ للزواجِ منها لإضفاء طابَع “الشرعيّة” -قانونيّاً- عليها .. لم أكُن صاحِب مسؤولية، ولمْ أكُن مُستعدّاً لها، لذا انفَصلتُ عنها بعد سِت شهور واعتقدتُ أن من الأفضل أن أبتَعِد وأنها ستعيش حياةً أفضَل بدون والِدها الأخرق ..

لكن الأمور تغيّرت كثيراً ..

قبل أسبوعَين تم تشخيصي بالسَرطان، هذا ما جَعل زوجَتي/صديقَتي السابِقة تُخبِرني أخيراً أينَ تدرُس ابنَتي وأينَ تعمَل .. رُبما يكون هذا الفِعل ألطَف فعلٍ قامَت به على الإطلاق ..

ابنَتي حصلت على منحةٍ كامَلة في إحدى الجامعات، ولكن بسبب ظروفٍ ماديّة فقد اضُطرّت للعمل في مقهى قريب حتّى تستطيع توفير مُتطلّباتها .. تردّدت كثيراً في الذهاب إليها، كُنت أودّ لو أجلَب لها هديّةً ما، لكن أنا حقاً لا أعرفُها !

استَجمُعتُ قِواي، وقرّرت الذهاب قبل فواتِ الأوان ..

كانَ مقهىً هادئاً .. دخلتُ وجلستُ عند أوّل طاولةٍ وجدتها، قريبةٌ من المدخَل حتّى أتمكّن من الهروب بسُرعَة ..

نظرتُ حولي، ووجدّتها فوراً لقد عَلمتُ أنها هي، كانَت تملك شعراً بُنياً مموّجاً مثلي، وابتسامَة مَرِحة كذلك، أما عيناها عسليّتان وغائِرتان كأُمّها .. وجدتها فتاةً نابِضةً بالحياة .. معدتي تُقرقع، شعرتُ بالعصارة المعديّة تُحرِق حلقي .. فكّرت كثيراً بالخطوة التالية .. ماذا عليّ أن أفعل ؟

فكّرت بالذهاب إليها وإخبارها الحقيقة، وأني حيّ وأُحبّها ونادِم على أخطائي .. فكّرت بالقيام وعدم الرجوع أن أقتل نفسي قبلَ أن يقتُلني السرطان .. لكن لا، بقيتُ ساكِناً مكاني في اللحظة التي رأيتُها متوجّهةً إليّ ..

رفعتُ جوّالي وادّعيت أني أعبَثُ به كي لا تتلاقى عينانا، ولكن لا مفر .. قَدِمت نحوي وبابتسامَةٍ رقيقة قالت:

– مساء الخير يا عَم، ما طلبُك؟

كان لديها طبقةُ صوتٍ عالية كوالدتها ..

– سأطلُب كوب قهوة ..

– حسنٌ، دقائق ويكون جاهِزاً ..

رحلتْ وتنهّدت بِعُمق، اللعنة، ماذا أقول؟ ماذا عليّ إخبارها؟ وبعد قليل عادَت:

– تفضّل .. أتريدُ شيئاً آخر؟

كفتاةٍ خَجِلة، قلت بصوتٍ خفيض:

– لا شُكراً، القهوة تكفي ..

وعندما همّت بالذهاب سعلتُ بقوة حتى أُعيدها، اقتربت منّي حتّى شممتُ رائحة عطرها الممزوج مع رائحة القهوة ناولتني مناديل وكأساً من الماء وقالت:

– صحّة يا عم .. كيف حالُك؟ هل أعجَبك المكان هنا؟

جميل ! إنها تُحاول فتح حديثٍ معي .. رُبما فكّرتْ أني شخصٌ وحيد بحاجة لرفقة ما في هذا الليل الشَتوي أو أنّي في انتظارِ أحدِهم ..

– نعم، مكانٌ جميل، ليسَ سيئاً ..

– استمتع إذاً، وإذا احتجت لأمرٍ ما فسأكون حاضِرة ..

ابتَسمتْ مُجدداً وربّتت على كتفي، ثم راحت كالفراشة تدور بين الطاولات لأخذِ الطلبات .. أما أنا فأخذت أُفكّر بجميع الاحتمالات، قاومت عدم النظر إليها قدر ما أمكنني ذلك .. وبعدَ عشرين دقيقَة أجدني لم أكرع سوى الماء لمُقاومة حموضَة معدتي التي ذبحتني، كان عليّ الذهاب لذا طلبتُ الفاتورة ..

عشرين ديناراً وضعتُها تحت كوب القهوة كبقشيشٍ لها .. تلكَ كانت هديّتي ..

سأحرِص على أن تَحصُل على المزيد بعد رحيلي ، فالشركة التي سَتَرثُها ستجعلُها تتخلّى عن العمل .. لكن الآن لا أُريد لقلبِها أن يتحطّم من صدمَة وجود الأب، وصدمَة رحيله، لا أريدُها أن تتحمّل مالا تُطيق، فقلبُها مُرهَف ونابِض بالحياة ..

تلكَ كانت هديّتي الحقيقية ..

اشتراك
إشعار إلى
guest
0 Comments
الأقدم
الأحدث الأعلى تصويتاً
تعليقات مضمنة
رؤية جميع التعليقات

تواصل معي

لأن كل مشروع عظيم يبدأ برسالة، أرسلها الآن، وسأقوم بالرد عليك بأسرع وقت.