lembo

النوّاح

لطالما كنت ذلك الفتى الباكي ، كنتُ أبكي على كل شيء ولكلّ شيء .. في المدرسة الابتدائية في اليوم الدراسي الأول بكيت ، عندما أخرجني الأستاذ للسبورة لأحل مسألة ما بكيت رغم معرفتي الإجابة .. عندما أجلس في بيت صديقي ويأتي والدي ليأخذني كنت أبكي ، عندما أخسر في لعبة بلايستيشن ، عندما أُفّوت على نفسي مشاهدة حلقةٍ من المسلسل ، عندما يُهزَم فريقي ، عندما لا تطبِخُ لي أمي طعامي المفضّل .. كُنت بكّاءً ، أبكي لكل شيء وفي كل شيء ..

لم يكُن الأمر مقتصراً على المواقف الشخصية ، فكنتُ عندما أرى مشهداً عاطفياً في أحد الأفلام تنهمر دموعي ، وعندما أسمع نبأ وفاة شخصٍ ما تسقط فوراً رغم كوني لا أعرفه .. كرهت نفسي كثيراً وكرهَني جميع من حولي .. كانوا في المدرسة الابتدائية يُعايرونني بـِ “النوّاح” وعندما يُطلقها أحدهم عليّ أنوح فوراً ، وأخبره بصوتي المُتقطّع الأقرب لصوت الأنثى مع شرقٍ للمخاط الذي نزل من أنفي جرّاء البُكاء “لا … انا … انا مالي … انا مالي نوّاح” ..

كان أكثَر ما يُثير بكاءي هو والدي ، كان دائماً غاضباً مُتجهم الوجه ، وكنت عندما أبكي أمامه يصفعني كفّ تطنّ بها أذني لعدّة ساعات ، ثم يقول بنبرة آمرة غاضبة “ابلعها! خليك رجال ولا تبكي متل النسوان” .. وما إن أسمَع الكلمة هذه حتى أنفجر باكياً أشد من السابق ..

تكررت هذه العملية في سنين دراستي الابتدائية .. كانت المدرسة الابتدائية كالجحيم بالنسبة لي ، ثُم حين بدأت المرحلة الإعدادية كنت قد قررت عدم البكاء مرّةً أخرى .. تدربت كثيراً على ذلك ، وفي كل مرة كنت أحاول إمساك دموعي فيها أجدها تسقُط بلا هوادة .. لكن مع المحاولة المتكررة صرت لا أبكي سوى لأسوأ الأمور وصرت قادراً على التحكّم الكامِل بدموعي .. وهكذا بدأتُ حياةً جديدة في مدرسةٍ جديدة لا أحد يعلَم فيها أني نوّاح !

كنت مازلت أبكي بالطبع ، لكن لم يكن أحد يرى دموعي عدا وسادتي ، ولم يكن أحد يسمَع نواحي سوى جُدران غرفتي .. ومع الوقت أصبحتُ شاباً قاسي القلب بلا مشاعِر بالنسبة لجميع الناس ..

الآن ، منذ زمنٍ بعيد جداً فقدت قدرتي على البكاء ، لا أذكر متى كانت آخر مرة بكيت فيها ، ولكنّي أذكر أوّل مرة شعرتُ فيها بحاجة للبكاء لكن تفاجئت أن دموعي قد جفّت .. كان ذلك عندما أتاني نبأ تَعرّض والدايَ لحادِث سيرٍ أودى بحياتهما فوراً .. بدلاً من بُكائي ضحكت .. ضحكتُ كثيراً جداً .. ولم أبكِ منذ ذلك الوقت !

بعدَ سنوات من تلك الحادثة ، أنجبتُ طفلاً لا يُذكّرني إلا بنفسي بسبب بُكاءه الشديد .. لا أدري ، هل يحتاج المرء لصدمةٍ ما تُفجِعه حتى يتوقّف عن البكاء ؟!

اشتراك
إشعار إلى
guest
0 Comments
الأقدم
الأحدث الأعلى تصويتاً
تعليقات مضمنة
رؤية جميع التعليقات

تواصل معي

لأن كل مشروع عظيم يبدأ برسالة، أرسلها الآن، وسأقوم بالرد عليك بأسرع وقت.