أكره المقاهي، أكره ازدحامها، وأكره روائح الدخان فيها، وضجيج الناس، وأكره ضحكاتهم وتمّلقاتهم الاجتماعية. لكنّني أجد نفسي مؤخراً دائم الجلوس فيها بطريقةٍ أنا نفسي لا أصدِّقها .. أجلس الآن بين الناس، أراقب حركاتهم، أنتشي بسماع ضحكاتهم، وأتفحص ملامحهم، وأشعر بأنني جزء من هذا العالم، حتى وإن لم أتحدث مع أحد .. لكنني على الأقل لستُ وحدي.
الحقيقة أنني لا أهرب من الوحدة بقدر ما أهرب من افتقادك. أهرُب من احتياجي بأن أكون وحيداً معك .. كلما جلست في مكانٍ ما وحيداً، أتذكَّر أن هذا العالم محض ضجيج لا حاجة لي به .. ولهذا تجدني الآن جالسًا في زاوية قصيَّة من مقهى لا يعرفني فيه أحد، أرتشف قهوتي ببطء، أغمض عيني وأقلِّب ألبوم الصور بداخلي، وأتوقف عند صورة لنا معًا. أبتلع الحنين برشفة أخرى، وأحاول أن أستعيد هدوئي، لكن الحقيقة أن الفقد موجع، وهو يأبى أن يتركني لحظة.
أتحجج بأنني أعمل، وأفتح حاسوبي كي أكمل المشاريع المعلَّقة. أستهلك طاقتي كلها في العمل، أهرب من التفكير فيك ومن كل الأسئلة التي لا أملك لها جوابًا. أبقى حتى ساعة متأخرة منهكًا لأعود إلى المنزل بلا حيلة ولا طاقة سوى أن أغرق في نوم عميق بلا أحلام. أحاول أن أهرب من فكرة أنك ما عدت هنا.
لو أن محمود درويش يراني الآن، هل سيكتب قصيدة جديدة عن شخص يجلس في المقهى كي يهرب من نفسه؟ ربما كان سيدرك أنني، مثله، أجلس هنا كي أكون معك بروحي، ولو لم تكن المسافة تفصلنا. أتظاهر بأنني بخير، لكن داخلي فارغ.
في وجوه العابرين وجه لا يعبر، يترك عيونه عالقة بصمتك، يلتهم كلماتك ويعيدك طفلاً يتلعثم حين تلفظ اسمه. في وجوه العابرين أطفال ورجال ونساء وليل طويل وصباحات وموسيقى ومقهى وكرسي ورغبة في إيقاف الزمن لحظة الاعتراف الأول .. يخطر لي أننا سنموت فرادى كما نحيا فرادى إلى الأبد، كما نجلس في المقاهي ونشرب قهوتنا فُرادى، وأتساءل، هل تستشعرين وجودي كما أفعل الآن؟ هل تسمعين صوتي حين تدلقين الماء على وجهك صباحًا لتوقظي الليل المتراكم؟ هل ترددين اسمي كما يفعل الشعراء؟ أم أن كل ما بيننا أصبح ذكرى بعيدة تدفنينها في الماضي الذي لم يعد يعنيك؟
اليوم اكتشفت هذه المدونة الرائعة!