لطالمَا كانت السُخريَة بالنسبة له نوعٌ من أنواع التجاوز. يستطيع خلقَ النِكات حتَّى في أصعب المواقف وأشدُها تأثيراً. السُخريَة خنجَر يشرِط به وجه الحياة الساخِر منه أصلاً، وقد أدركَ مع الوقت أن أوَّل شيء يجب أن يسخَر منه هي نفسُه، كي لا يأخُذ تلك المسرحيَّة الهزليَّة المُلقَّبة بالحياة على محمَل الجَدِّ.
لكنَّه وصلَ لتلك المَرحلةِ التي لم تعُد فيه نفسُه قادرةً على الاستهزاء من نفسِه. لم يتمخَّض عقلُه عن أيٍّ نكات مُجدَّداً، ثُمَّ بدَت الحياة حينها تراجيديا قاتِمة تدفَع على البُكاء في كُلِّ الأحيان. لكنَّه لم يبكِ، بل كان يضحك ويضحك ويضحك.
اختارَ المكانَ الذي سيؤدِّي فيه سُخريَته الأخيرة بعنايةٍ فائقة: على شاطئ بحرٍ لا يزوره أحد، وفي ليلةٍ قمريَّة أمواجُها هائجة، لتكونَ سخريَته على مرأى من الإله والقَمر والبحر.
جمَع حولَه الجمهور، كانوا بضعة أشخاصٍ فقط أراد أن ينتقم منهم. في الحقيقة، لم يكونوا أشخاصاً، بل كيانات، أشباح ماضيه إن صحَّ التعبير. استدعاهُم بتعويذته، وحلَّقوا فوقَ البحر يُشاهدونَه.
استلَّ خِنجَره، وشقَّ عنه ثيابَه ليعودَ عارياً، وبدأ يتقدَّم نحوَ البحر بخُطى ثابِتَة لتتخلخل المياه المالِحة أصابِع قديمه، ثُمَّ ساقيه فرُكبَتيه، وصولَاً لمنتصف بطنِه. نظرَ حولَه بدائرة كامِلَة، ووجَّه وجهه للبحر. ثُمَّ رفَع عينيه نحوَ السماء مادَّاً ذِراعه اليُسرى، وأخذَ بالضحك.
توقَّف عن الضِحك قليلاً، وقال بصوت عالٍ: «هذه حياتي .. وهبتُها لكِ أيَّتُها الحياة القَذِرة». ثُمَّ ضَحِك بصوتٍ أعلى. «ولا أريد أيَّ فضلٍ منكِ .. فقط اتركيني وشأني». ثُمَّ ضَحِك. ورفَع يده اليُمنى التي تحمِل الخنجَر نحوَ معصَمِه الأيسر، وخدشه.
أحسَّ بالماء الدافئ يسيلُ من يده ليختفي أثرُه بماء البحر. لكنَّه ضحك، وقال: «أنا من سيضحَكُ أخيراً». ثُمَّ ومرَّة أخرى، شقَّ يده بقوَّة ليتفجَّر السائل القُرمزيُّ اللَّزِج. وصدَع بصرخةٍ سمِع دويُّها من في السماوات ومن في الأرض إلَّا البشر. وما هيَ سوى لحظاتٍ حتَّى اتَّحد جسدُه مع الطبيعَة كما أراد، وطافَ على سطح الماء بلا مُقاوَمة تتلاطَمُه الأمواج.
وهناك، حامَ فوقُه الجمهور وهتفوا له بحرارة. ووجه الحياة يراهُ بفخرٍ كاتِماً ابتسامَته. بينما طافَت الجُثَّة ولم ترسو على أيَّة جزيرةٍ حتَّى الآن.
سامسا ضاحكاً