بعد الإعلان اليوم أن عجوزنا المحبوب رفعت اسماعيل سوف يظهر قريباً على الشاشة -وأخيراً، تحمّست للفكرة جداً، خاصة تلك الصورة التي أظهَرت أحمد أمين بهيئة العجوز الساخر نصف الحليق ومع قرائتي لتعليقات المُحبّين، نحن الجيل الذي جعَله الدكتور أحمد خالد توفيق يقرأ، كانت الصورة مُذهِلة بحقّ، وهي ذات الصورة التي رسمتها في مخيّلتي عنه، أتمنّى أن لا يخذلنا أحمد أمين!
على كل حال، تذكّرت بعض تلك الأمور الطفولية التي حدثت معي أثناء انغماسي في عالم ما وراء الطبيعة.
كُنت في الصفّ السابع حينما كنت أذهب للمكتبة أسبوعيّاً لشراء عددٍ لم اقرأه من السلسلة، وأقعد أسبوعاً كاملاً أقرأها ثُم انتقل للقصّة التالية في الأسبوع التالي، وهكذا.
أسطورة نادي الغيلان واحدة من تلك الأساطير التي قرأتها بنهَم الغول، أذكُر حينها كيف كنتُ أُخرجها من جيبي وأقرأها حتى في الحصص الدراسيّة واضعاً القصّة في دُرج المقعد أقرأها بسريّة خوفاً أن يُصادرها الأستاذ كما صادر قصّة بذور البرتقال الخمس من قبل. كانت الأسطورة تروي قصة صديق الدكتور رفعت الذي جاءته دعوة لحضورٍ نادٍ سريّ، ليتغيّر سلوكه بعدها ويُصبِح عنيفاً اتجاه زوجته ويُحبّ تناول اللحوم الغير مطهيّة. هنا تستجدي زوجته بالدكتور رفعت ويُدرك بعبقريّته أن هناك خطباً ما في النادي، فيُقرّر الذهاب لاستديو تصوير “هالة” فهو بوّابة دخوله للنادي. حيثُ يقوم الاستديو بتصوير الأشعة فوق الحمراء للتعرّف على هالات الشخص، وبحسب لون الهالة يتعرّف المصوّر إذا ما كان هذا الشخص مؤهّلاً ليُصبِح غولاً أم لا.
بحسب ما أذكر، فقد كانت هالات الغول هالاتٌ حمراء دافئة أقرب للبنفسجي، حينَ وصلتُ لتلك الجزئية التي توصِف سلوك الغيلان وما يفعلونه، وبدأت بربط تلك السلوكيّات مع أفعالي، وقرأت أكثَر عن الهالات وتأثيرها، والتشاكارات والطاقة، لم أصِل سوى لاستنتاج واحدٍ مُفاجئ: اللعنة، أنا غول!
أعني، لقد كان الأمر منطقيّاً حقّاً، كُنت الأضخم بين زملائي في المدرسة، ذا صوتٍ جهوريّ جداً، لدرجة أنه في يوم ما تعطّل المايكروفون خلال الإذاعة الصباحيّة، ومع ذلك استكملت تقديمها وأسمعتُ جميعَ من في الساحة، كنتُ قائداً لطابقٍ كامل في جماعة النظام المدرسيّ (وهي تُشبه جهاز أمن الدولة، لكن في المدرسة) وعريفاً للصفّ الذي أكون به، وكان الجميع يهابني. كنتُ حليق الرأس دائماً، بعينينِ كبيرتين غائرتين، وحاجبين كثيفين مُتّصلين، وأنفٍ مُفلطَح ذا منخَرين كبيرين لا يتناسبان مع حجمه، وأكتافٍ عريضة، أحبّ أكل اللحوم كثيراً، وأسرّ حينَ أرى الدماء. لكن الأمر الذي لا يترك مجالاً للشكّ بأنّي غول، هو أن الحيوانات جميعُها تهرب منّي، فبحسب ما قرأت، فإن الحيوانات تتمكّن من رؤية الهالات، وتستطيع تحديد هالات الشرّ والخير المنبعثة من الإنسان وتتصرّف بهذا الأساس. تذكّرت صديقي الذي كانوا يُلقّبونه بأبي هريرة كيف أن جميع القطط تأتي إليه وتدعك جسدها بقدميه، أبو هريرة محبوب من جميع الحيوانات، ورحيم كذلك، يراه الببغاء فيُحلّق نحوه ويقف على رأسه، والكلاب تنظُر إليه وتُحرّك ذيلها تعبيراً عن الحُبّ، والسّلاحف تسكُن على راحة يده. لابدّ وأن أبا هريرة لديه هالات طيّبة تستشعرها الحيوانات بمختلف أنواعها. أما أنا، فكُنت كـ عمر الفاروق والشيطان، أسلُك طريقاً وتسلك القطط طريقاً آخر بعيداً عنّي، تراني الكِلاب فتبدأ بالنُباح بوجهي. لابدّ وأن هالات الشرّ تنبعث منّي.
لكن ليس هذا وحسب، فأكثر ما كان يُثير ريبتي هي أن الأطفال جميعهم حينَ يسمعون صوتي الجهوريّ يبدأون بالعويل، وحين أضمّهم إلى حضني وأبتسم يشعرون أن إبليس بنفسه يبتسم لهم فيبدأون بالبكاء الصاخب، بينما وبمجرّد أن تحملهم أختي الملائكية يصمتون ويضحون بل ويُغرغرون، وكأنهم يقولون: شكراً لكِ، لقد أنقذتنا من الجحيم.
كنتُ أشعُر بالريبة حقاً، مرّةً تحدّثتُ لوالدتي حول شكوكي (بالطبع لستُ بهذا الحُمق لأقول لها أنني غول، فهذا الأمر سريٌّ للغاية) أخبرتها أني أشعُر أن هناك خطباً ما بي، فجميع الأطفال يتجنّبونني ويبكون أثناء رؤيتهم لي. كانت تُرجّح أن هذا بسبب أني أخاف عليهم من الوقوع حين أضمّهم، فأضمّهم بقوة بدون شعور، وكانت تقول: “أنت تُكسّر ضلوعهم حين تحملهم، لذلك يبدأون بالبكاء. لكن عندما تكبُر ويُصبح لديكَ أطفال، ستتعلّم الطريقة الصحيحة لضمّهم”. لم أقتنع بكلماتها، ولم تزل شكوكي، كنت أخاف أن أبنائي حتّى سوف يكرهونني.
كانت المرّة الأولى التي اقتنعتُ فيها أنني لستُ غولاً، هي المرّة التي جاءت فيها جارتُنا بصحبة طفلها ذا العامين. وياللعجب، هذا الطفل الوحيد الذي لم يهرب منّي، بل جلستُ أُلاعِبه بلطفٍ ونضحك من أعماقنا، واستمرّت صداقتي مع ذلك الطفل حتى غادروا شقّتهم. أدركتُ حينها أنني لستُ غولاً، لكن الخطأ في أسلوبي، وبدأت العمل على ذلك. والآن أصبح بإمكاني التحوّل لنمط الغيلان متى ما أردت، ولنمط الحَمَل الوديع متى ما أردت.
الآن، حينما أتذكّر تلك الأفكار، أبتسم. كم كنتُ ساذجاً. لكن وبمرور الأيام، اكتشفتُ أن الحياة هي الغول الحقيقيّ، أما أنا مُجرّد طفلٍ حالمٍ بائس.