لطالما جذبتني الأعمال السريالية الغرائبية التي تخرج عن المألوف وتدفع العقل نحو استكشاف أبعاد عميقة من الواقع والهوية الإنسانية وتضعني أمام تجارب فكريَّة مثيرة قد لا تحدث أبداً في الحياة، لذا أجد في هذه النوعية من الأعمال متعة خاصة، كونها تقدم تساؤلات فلسفية وأخلاقية معقدة بطريقة مشوّقة وغير تقليدية .. ولعلَّ حبِّي لهذه السريالية هو ما يدفعني باستمرار للكتابة عن كافكا وهاروكي موراكامي، والآن أُضيف له هذا العمل .. كان مسلسل Severance واحدٌ من أبرز الأعمال التي تابعتها بشغف كبير مؤخراً كونه يجمع بين الغموض والإثارة والتساؤلات الفلسفية بشكل استثنائي.
في موسمه الأول، تعرّفنا على شركة “لومون” الغامضة التي تستخدم تقنية غريبة تسمى “الشطر/الفصل”، حيث يتم من خلالها فصل ذاكرة الموظفين إلى قسمين منفصلين: ذاكرة خارجية (ذات خارجية)، وذاكرة داخلية (ذات داخلية). الشخصية الخارجية تعيش حياتها بشكل طبيعي خارج نطاق العمل، بينما الشخصية الداخلية لا تمتلك أي ذكريات سوى ذكريات بيئة العمل داخل لومون. وبفضل هذه التقنية، يعيش الموظفون حياتين منفصلتين تمامًا، ولا يدري أحدهم شيئًا عن حياة الآخر .. فكرة مثيرة للاهتمام صحيح؟ الحقيقة أني ذكرت فكرة المسلسل لمديري في العمل وأعجبته وتمنَّى لو كانت موجودة لدينا! على كل حال، تركنا الموسم الأول مع مجموعة ضخمة من التساؤلات التي تتعلق بالهوية الشخصية، حرية الإرادة، والبعد الأخلاقي لتجزئة الإنسان وذاكرته، خاصة مع اكتشافات الموظفين داخل لومون لبعض الحقائق الصادمة عن الشركة وأهدافها الغامضة.
الأسئلة الأخلاقيَّة الكبرى
دعونا نكن صريحين قليلاً، فكرة أن تفصل ذاكرتك ووعيك لتعيش حياة خالية من الألم تبدو مغرية جدًا. مَن منّا لم يفكّر يومًا بحذف ذكريات علاقة فاشلة أو موقف مُحرج ما؟ شخصيًا، لو أتيحت لي الفرصة، ربما فكّرت مرتين (أو ثلاث مرات). لكن مسلسل Severance أخذ هذه الفكرة الجذابة وقدَّمها بطريقة سوداويَّة ومرعبة، لنجد أنفسنا أمام واقع أخلاقي شديد التعقيد.
فمثلاً، هل الذات الداخلية مجرد أداة لا تمتلك حق تقرير المصير، فقط لأننا لا نراها ولا نعيش تجربتها؟ ما الفرق الأخلاقي بين خلق ذات داخلية تستعبدها للقيام بالمهام التي تتهرب منها، وبين أي شكل آخر من أشكال الاستعباد؟ كيف يمكن تبرير خلق معاناة جديدة داخل الذات الداخلية لمجرد أن الذات الخارجية تفضل الراحة أو الهروب من الألم؟
الموضوع يصبح أكثر تعقيدًا عندما نفكّر في طبيعة الألم الذي نريد الهروب منه. فمثلاً، قد يبدو الألم قصير المدى (مثل ألم الأسنان) مبرَّرًا أخلاقيًا إذا لم يُسبّب ضررًا دائمًا أو يُغيّر من جوهر شخصية الإنسان. في هذه الحالة، يبدو الشطر كأنه تقنية طبية متقدمة لا أكثر، مجرد “تخدير متطور”. لكن المسلسل يضعنا أمام حقيقة قاسية: عند شطر الذاكرة، نحن لا نُلغي الألم تمامًا، بل ننقله حرفيًا إلى شخصية داخلية أخرى تعيش التجربة كاملة بدلًا عنا. وهنا تظهر أسئلة أكثر حدّة وصعوبة:
هل من حقك أخلاقيًا أن تخلق كيانًا بشريًا جديدًا لمجرد أن يتحمل الألم بدلاً منك؟
وهل الذات الداخلية مجرد نسخة عابرة مؤقتة يمكن تجاهلها، أم أنها بالفعل كيانٌ مستقل له حقوقه، هويته، ومشاعره، وبالتالي علينا أن نعامله كإنسانٍ حقيقي؟
يزداد الأمر تعقيدًا عندما نتحدث عن آلام أكثر شدّة وتعقيدًا مثل ألم الولادة، وهو ما طرحه المسلسل من خلال فكرة “أكواخ الولادة”. قد تبدو فكرة استخدام الشطر هنا مبرَّرةً أخلاقيًا، خصوصًا إذا كانت رغبة الأنثى بالإنجاب قويةً، لكنها تخشى مواجهة الألم الشديد للولادة. لكن هذا يدفعنا مجددًا لسؤال أخلاقي أكبر:
هل من المقبول أخلاقيًا أن تختار الإنجاب ثم تلقي بكل عبء الألم على شخصية داخلية أخرى، شخصية لم يكن لها أي خيار أو رأي في هذا القرار؟
هذا التساؤل يتضاعف خطورةً عندما يطرح المسلسل قصة الزوجين، الرجل الذي يرغب بشدة في الإنجاب والمرأة المعارضة. هنا، يصبح الشطر شكلاً مرعبًا من أشكال التلاعب؛ حيث قام الرجل بشطر ذاكرة زوجته ضد رغبتها ليحقق رغبته الشخصية بالإنجاب. في هذا المثال تحديدًا، يتحول الأمر إلى استغلال واضحٍ وصريح للذات الداخلية لتحقيق رغبات جسدية أو جنسية أو عاطفية، ليضعنا أمام أسئلة شديدة الخطورة:
هل يجوز أخلاقيًا أن نتلاعب بوعي شريكنا، أو نخلق ذوات داخلية جديدة فقط لتلبية رغباتنا الشخصية؟
أين يقع الخط الفاصل بين حق الإنسان في التحكم بجسده وذاكرته، وبين حقوق الكيانات التي قد نخلقها في عقولنا؟
هذا يقودنا أيضًا لسؤال أكثر عمقًا: إلى أي مدى يجوز لنا الهروب من المعاناة؟ في فيلم Eternal Sunshine of the Spotless Mind، حاول الأبطال الهروب من ذكريات الحب المؤلمة عبر مسحها من أذهانهم، لكن النتيجة كانت حياة أقل أصالة وأقل صدقًا. هذا الفيلم الرائع يُظهر بشكل شاعري كيف أن محاولاتنا للهروب من الألم قد تؤدي إلى خسارة جزء كبير من ذاتنا وإنسانيتنا. في مسلسل Severance، يتم تقديم هذه الفكرة بشكل أكثر حدّة وظلامية، حيث تُستخدم التقنية لفصل الإنسان عن جزء كامل من وعيه، ليصبح هذا الجزء أشبه بإنسان مستعبد، يعاني في الخفاء دون أن يدري الطرف الآخر شيئًا عن هذه المعاناة. ربما يكون الألم والتجارب السلبية جزءًا من الطبيعة البشرية، بل وجزءًا ضروريًا لنمو الشخصية وعمق التجربة الإنسانية.
شخصيًا، ورغم كل التعقيدات التي يطرحها مسلسل Severance، أعتقد أن الضابط الأخلاقي الأساسي يجب أن يكون الاعتراف الكامل بإنسانية الذات الداخلية واستقلالية وعيها. بمجرد أن ندرك أن الذات الداخلية هي شخصية مكتملة، تملك مشاعر وأحاسيس، يصبح من غير المقبول أخلاقيًا أن نخلقها لمجرد أن تتحمل معاناةً نيابة عنا، سواء كانت هذه المعاناة قصيرةً مثل ألم الأسنان، أو عميقةً ومعقدةً مثل آلام الولادة أو الخسارة العاطفية. فالإنسان ليس مجرّد وسيلةٍ لتحقيق رغباتنا أو لتجنّب آلامنا؛ بل كيانٌ له حقوقه التي يجب أن تُصان، حتى لو كان هذا الكيان جزءًا منا خلقناه بأيدينا.
شرح النهاية
في الحقيقة، أعتقد أن نهاية الموسم الثاني من المسلسل تصلح أن تكون مادة دراسية مستقلة بعنوان: “كيف تعبث بعقول المشاهدين وتتركهم يتساءلون عما شاهدوه؟”. لأن النهاية، رغم وضوح بعض أجزائها، تركت لنا العديد من الأسئلة، مع لحظات من نوع “لك شوو هي هييك” أو “أحا” كتعبير عن الدهشة.
لنبدأ أولاً من اكتشاف حقيقة مشروع Cold Harbor الذي حيَّرنا طوال الموسم. للوهلة الأولى، كنتُ أظن أنه اسم لمهمة عسكرية أو مشروع تجسس لتدمير العالم على طراز الأفلام الأمريكية الرديئة، لكن بالطبع، وكوننا في عالم Severance، لا شيء يمكن أن يكون بهذه البساطة. يتبيّن لنا في النهاية أن مشروع Cold Harbor هو في الواقع مشروع غامض يهدف إلى إنشاء شخصيات داخلية متعددة داخل عقل شخص واحد، تحديدًا داخل عقل “جيما”، زوجة مارك التي عرفناها باسم “الآنسة كيسي”. تخيل أنك – دون علمك – كنت تساهم في خلق نسخ متعددة من زوجتك، كل نسخة لا تدري شيئًا عن النسخ الأخرى، بل ولا تدري حتى أنها زوجتك! هذا هو مستوى الجنون الأخلاقي الذي وصلنا إليه هنا.
ما الذي يعنيه ذلك؟ ببساطة، مشروع Cold Harbor يحاول عزل الذوات الداخلية ليس فقط عن ذاكرتها الخارجية، بل أيضًا عن أي تجربة شعورية حقيقية. كل ملف من الملفات التي كان مارك يعمل على إنهائها، كانت نتيجته خلق ذات داخلية منفصلة تمامًا لجيمّا، ما يعني أننا أمام حالة “ذات داخلية داخل الذات الداخلية”، أو كما أريد تسميته: “سندويشة الوعي”، التي تخبئ في داخلها طبقات متراكمة من الهويات البشرية المسكينة التي لم تختر يومًا أن توجد، لكنها الآن مضطَّرة لتعيش الألم والمعاناة التي فرضتها شركة لومون.
والأغرب، أو بالأحرى الأكثر إزعاجًا، هو أن السيدة كوبيل (التي أعتقد أنها ثاني أقذر شخصية نسائية بعد زوجة والتر وايت) شرحت لمارك بأن ملفات Cold Harbor هي عمليًا أوعية لوعي زوجته، وكلما أكمل ملفًا جديدًا، فهو يخلق وعيًا جديدًا لها. معادلة بسيطة للغاية، كالتالي: “انتهيت من عملك؟ رائع، تهانينا لقد خلقت شخصًا آخر سيتعذَّب مكانك!”.
ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد، بل يتم إرسال جيما في المشهد الأخير إلى غرفة اختبار تحمل اسم “Cold Harbor”، للقيام بمهمة رمزية وعاطفية بشكل مرعب: تفكيك مهد طفل. نعم، مهد طفل! وهذه المهمة لم تكن عبثية، بل مقصودة لاقتلاع أعمق مشاعر جيما وألمها المرتبط بالعقم وفقدان فرصة الأمومة، وكأنهم يقولون: “دعونا نقتلع كل ذرة من شعورها بالحب والأمل والإحساس، لتتحول إلى مجرد وعاء فارغ بلا هوية” .. وللعجب سارت التجربة بشكل ممتاز، بدون رجفان في اليد، وبدون أن يتذكر وعي جيما الداخلي أن هذا المهد يخصّ طفها أصلاً وحياتها السابقة.
وهنا يأتي مارك (لحسن الحظ) لينقذ الموقف ويمنع الانهيار التام لوعيها، لتتحول القصة إلى شيء يشبه قصة “روميو وجولييت” مع فارق بسيط؛ بدلاً من أن تكون المأساة بسبب عائلة متعصبة، نجد هنا شركة متعصبة ذات عقيدة غريبة أشبه بطائفة، تتضمن تقديم قرابين من الماعز، ودفنها مع جسد جيما عند موتها، لكي “يرشد الماعز روحها نحو باب كير”، كير طبعًا هو مؤسس الشركة المقدس (ولا أدري لماذا أشعر بأننا قريبون من سماع شعار “كير هو الحل” في المواسم القادمة!).
الحقيقة أنَّ رمزية Cold Harbor مرعبة لأنها تتحدى حدود أخلاقيات التعامل مع البشر. فالمشروع (فيما يبدو) يمثّل الذروة القصوى للاستهانة بمعنى الهويَّة البشرية، واستغلال الألم والصدمة النفسية كوسيلة للتحكم بالبشر، بل وحتى لخلقهم مجددًا. الموضوع هنا لم يعد مجرد فصلٍ بسيط بين حياتين، بل أصبح شيئًا أعمق وأشدّ خطورة: نحن الآن نتحدث عن خلق وعيٍ كامل يتم استغلاله والسيطرة عليه بشكل لا يمكن وصفه إلا بالوحشيِّ.
ومع ذلك، يبقى السؤال الأكبر هو: لماذا تفعل لومون هذا؟ هل الهدف ببساطة إنتاج بشر بلا آلام، بشر بصفات الآلات، قادرين على أداء مهام دون اعتراض أو ألم أو مشاعر؟ أم أن هناك أهدافًا أعمق، مثل سعي الشركة ربما لزرع وعي شخصيات أخرى –مثل كير نفسه– في هذه الأجساد الخالية من المشاعر؟
"وفيك انطوى العالم الأكبر"
لطالما ردَّدتُ بيني وبين نفسي عبارةً رائعةً تُنسَب لسيِّدنا علي بن أبي طالب يقول فيها: “وتحسبُ أنك جرمٌ صغيرٌ، وفيكَ انطوى العالم الأكبر”. المسلسل جسّد المعنى الحرفي لهذه المقولة بشكل مرعب وساخر معًا؛ حيث أصبح الإنسان فعليًا “عالمين” كاملين من الذكريات والمشاعر والتجارب، عالمًا داخليًا معزولًا تمامًا عن عالم خارجي، وكلاهما يظن نفسه مركز الكون.
العلاقة الملتبسة بين الذات الخارجية والذات الداخلية في المسلسل هي تجسيدٌ حرفي لفكرة أن الإنسان قد يحمل بداخله أكثر من شخصية واحدة، أكثر من “أنا” واحدة. ما يُضيف غرابةً على هذه العلاقة هو أنها ليست علاقة تناغم وتكامل، بل على العكس تمامًا، هي علاقة صراعٍ خفيّ، وظلمٍ قد يكون أشدَّ قسوةً من ظلم الآخرين، لأنها ظلم الإنسان لذاته دون حتى أن يدري.
أكثر مثال صارخ على هذه المفارقة الغريبة يتجلّى في مشهد الحوار بين مارك الخارجي ومارك الداخلي في الحلقة الأخيرة، حين قرّر مارك الخارجي الاعتذار لذاته الداخلية عن وضعه في “كابوس” داخل لومون، في محاولةٍ للهروب من ألم فقد زوجته. هنا تحديدًا، كان ردُّ مارك الداخلي غير متوقع، إذ قال بهدوءٍ فلسفي غريب: “هذا ليس كابوسًا، إنها الحياة التي وجدتها، وتكيّفتُ معها بطريقة تجعلني أشعر بالكمال.” هذا الرد جعلني أتساءل: هل من الممكن فعلًا أن يجد الإنسان الكمال وسط معاناة لا تنتهي؟ وهل هذه الشخصية الداخلية لديها حياةٌ حقيقية وشرعية مثل حياة الذات الخارجية؟
لكن لعل المشهد الأكثر إثارةً للغرابة كان مرتبطًا بشخصية ديلان. ذات ديلان الداخلية، في لحظة طائشة وغير محسوبة (أو ربما محسوبة جدًا)، قبّلت زوجة ذات ديلان الخارجية خلال إحدى اللحظات النادرة التي سُمح فيها للذوات الخارجية بالتواجد مع الموظفين المشطورين. هذا الموقف الذي بدا ساخرًا وطريفًا في البداية، يطرح تساؤلًا مزعجًا للغاية: هل من حق الذات الداخلية أن تتصرّف بناءً على رغباتها ومشاعرها الشخصية؟ وماذا عن الذات الخارجية التي ستضطر للتعامل مع عواقب أفعال ذاتها الداخلية دون أن يكون لها يدٌ في ذلك؟ ساخرٌ الأمر حقًا، لكنه يعبّر عن المستوى العميق من الانفصال والتناقض بين الذاتين، وعن حقيقة أن كل ذاتٍ لها عالمها الخاص وقواعدها الخاصة التي قد تتصادم بشكل مربك.
هذا يضعنا أمام سؤال أخلاقي آخر: هل الذات الداخلية تمتلك حرية التصرف والتعبير عن مشاعرها ورغباتها الخاصة؟ أم أنها مجرد امتداد للذات الخارجية، دون حق أو هوية مستقلة؟ وهل المسؤولية الأخلاقية تقع على الذات الخارجية التي قررت خلق هذه الذات الداخلية؟ أم على الذات الداخلية نفسها التي تصرفت وفقًا لرغباتها الإنسانية الفطرية؟
في الحقيقة، علاقة الذاتين أشبه بتوأمين ملتصقين يتشاركان نفس الجسد، لكن كل منهما يريد أن يعيش حياة مختلفة تمامًا. فالذات الخارجية تريد راحة البال بعيدًا عن الألم والمشاكل اليومية، بينما الذات الداخلية تعاني من آلام ومشاعر مكبوتة وممنوعة، وربما هذا الكبت هو ما يؤدي أحيانًا لانفجارٍ مثل ذلك الذي حدث مع ديلان الداخلي، حين قرر فجأةً أنه يريد التعبير عن مشاعره بحريةٍ كاملة دون اعتبار للعواقب.
المثير للسخرية فعلًا هو أن العلاقة بين الذات الداخلية والخارجية تشبه إلى حدٍ كبيرٍ علاقتنا مع أنفسنا في الحياة الواقعية، ولكن بشكل أكثر تطرفًا. كم مرةً نرغب نحن أيضًا بالهرب من ذواتنا أو تأجيل آلامنا وترك مسؤولياتنا لنسخةٍ مستقبلية من أنفسنا؟ الفرق هنا هو أن في مسلسل Severance، الذات الداخلية حقيقية وواقعية ولها وعيٌ مستقل، مما يجعلنا نشعر بمسؤولية أخلاقية مضاعفة تجاهها.
نعود مرة أخرى لقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “وفيكَ انطوى العالم الأكبر”، فها هو الإنسان في مسلسل Severance يتحول إلى عالمين كاملين متناقضين داخل الجسد الواحد، عالمٍ حرٍ ومستريح، وعالمٍ مستعبدٍ ومعذّب. هذه الثنائية الصادمة تدفعنا للتفكير بجدية حول طبيعة المسؤولية الأخلاقية التي يتحملها الإنسان تجاه ذاته وتجاه الآخرين، وتدفعنا للتساؤل: أين هي الحدود الفاصلة بين الحرية الشخصية والسيطرة الأخلاقية؟
ربما يكون أعظم درس تعلمناه من العلاقة الغريبة بين الذاتين في مسلسل Severance هو أن أسوأ أنواع الظلم قد يكون ذلك الذي نمارسه على أنفسنا دون وعي، وأن أعظم معارك الإنسان الأخلاقية قد تكون تلك التي يخوضها مع ذاته. فقبل أن نفكر يومًا بشطر ذاكرتنا، علينا أن نفكر جيدًا: هل نحن مستعدون فعلًا لتحمل مسؤولية حياةٍ كاملةٍ جديدةٍ قد نخلقها داخلنا دون أن ندري؟
وحتى ذلك الحين، نصيحتي الشخصية لكل شخص يفكّر في عملية شطر كهذه: إذا كنت لا ترغب أن تستيقظ يومًا ما لتجد ذاتك الداخلية قد قبّلت زوجتك دون استئذان، فربما يكون من الأفضل لك أن تبتعد عن لومون وتقنياتهم إلى الأبد!

بين تساؤلات لم تُحسَم وانتظارٍ يشوبه الحنين
إذاً، انتهى الموسم أخيراً بعد عشر حلقات .. لكن كعادة الأعمال العظيمة، انتهت الأحداث بمزيد من الأسئلة بدلًا من تقديم إجابات شافية. فما زلنا لا نعرف ما الهدف الحقيقي لشركة لومون؟ هل هي مجرّد شركة تسعى لخلق بشرٍ لا يشعرون بالألم؟ أم أنها طائفة غامضة تحاول تحقيق شكلٍ من أشكال الخلود والسيطرة على وعي الإنسان؟ مشروع Cold Harbor ما يزال أيضًا يثير الكثير من الحيرة، ويبدو أننا سنبقى لفترة طويلة نحاول فهم حقيقة ما كانت تخطط له هذه الشركة الغريبة.
كذلك لا نعلم إلى الآن ماذا بعد إنقاذ جيما ماذا سيحل بمارك وهيلي بعد أن اختار العودة؟ ولا زلنا نجهل المعنى الحقيقي وراء وجود الماعز والطبيعة الطقسية التي تُمارسها الشركة. هذه الأسئلة وغيرها تجعل الانتظار للموسم الثالث مليئًا بالحماس والتشويق والترقب.
لكن، في النهاية، وربما هذا ما يجعل المسلسل عميقًا ومؤثرًا إلى هذا الحد، هو أنه يُعيدنا إلى السؤال الأساسي عن علاقتنا بالذكريات والألم .. أثناء متابعتي للمسلسل، وجدتُ نفسي في مواجهةٍ مع سؤالٍ طرحته على ذاتي الداخليَّة بشكل شخصي جدًا: “لو كنتُ مكان مارك، هل كنت سأختار شطر ذاكرتي لأتخلص من ألم الفقد؟”
لم أحتج للكثير من الوقت لأعرف إجابتي، لأنّ ألم الفقد الذي عشته مؤخرًا جعلني أفهم جيدًا معنى الفقد حينما فقدتُ فتاةً كانت كالشمس في حياتي .. عندما رحلت، وجدتُ نفسي أتمنى الموت كي أتخلص من ألم غيابها، لكنني مع ذلك لم أفكر ولو للحظة واحدة أن أنساها أو أن أشطر ذاكرتي. كيف يمكنني أن أتخلّى عن ذكرى الشخص الذي منحني شعورًا بأنني حيٌ حقًا؟ نعم، ترك رحيلها في قلبي ندبة لن تندمل، لكنني أدرك أن هذه الندبة، بكل ما فيها من ألمٍ، هي ما يجعلني أعرف أنني عشت وأحببت وتألّمت كإنسانٍ حقيقي.
وربما هذا ما أراد مسلسل Severance أن يقوله لنا في نهاية الأمر: إنّ الألم والذكريات، رغم صعوبتها، هي جزء لا يتجزأ من إنسانيتنا. ومحاولة الهروب منها عبر الشطر والنسيان قد تجعل حياتنا أقل صدقًا وأقل اكتمالًا.
وحتى نلتقي مرة أخرى مع الموسم الثالث وإجابات جديدة، وربما أسئلة أكثر تعقيدًا، دعونا نحتفظ بهذه الأسئلة في أذهاننا:
إلى أي مدى نمتلك حق تقرير مصير ذاكرتنا؟
ما الذي يجعل حياتنا تستحق أن تُعاش؟ أهو غياب الألم، أم مواجهة الألم بوعيٍ وشجاعة؟
أما نصيحتي الأخيرة لكم: في حال صادفتم شركةً تُدعى لومون، أو مكانًا فيه ماعز، اهربوا بأقصى سرعة ممكنة!
مقال رائع