في المستشفى، أصوات الطنين المزعج تبدو كأنها نحيبٌ لجدارٍ أصمّ، رنينٌ يطعن الهدوء بحدّة، ينبض كأنّه ساعةٌ تحسب أنفاس من يترنّح بين الحياة والموت. كل نبضة تُدوي في الأرجاء كصرخةٍ مكتومة، تنذر بأنّ الوقت ينزلق من بين الأصابع.
في المستشفى، ممرضاتٌ بوجوهٍ متجمّدة، فقدن الرحمة وسط جداول العمل المكتظة ومطاردة الساعات الطويلة. خطواتهنَّ سريعة، أصواتهنَّ قصيرة، وكأنهنَّ يخشين أن يتوقف الزمن إن توقفن للحظة. في أعينهنَّ بقايا إنسانية غارقة تحت أعباء الأرقام والملفات.
في المستشفى، الحياة والموت يتعانقان في صمتٍ ثقيل. هنا طفلٌ يصرخ معلنًا قدومه إلى العالم، وهنا عجوزٌ يودّع بصمت، بينهما رُكام من قصص مبتورة ستُنسى لاحقاً.
في المستشفى، المشاعر تتصادم كالأمواج في بحرٍ عاصف .. هناك فرحٌ لا يكتمل وأملٌ يترنّح فوق هاوية اليأس. عيون تترقّب المعجزات، وقلوب تختبئ خلف جدران القلق. في الممرات، تعلو تنهيدةً وتنخفض آهة .. الأرواح تعزف سيمفونية من الحزن المستتر.
في المستشفى، الزمن يمرّ ثقيلًا، كأنّ عقاربه تمشي على زجاجٍ مُتكسر. لحظات الانتظار تبدو أبدية، والساعة التي على الحائط تُصر على تأكيد حضورها برنينٍ يخنق الصمت. هنا، يتمنى البعض أن يعود الوقت للوراء، بينما يحلم آخرون أن يتخطّى لحظة الألم.
في المستشفى، الحياة مؤجلة. أصوات الضحك نادرة كنجوم في ليلة عاصفة، والهمسات أكثر حضورًا من الكلمات. الجميع يحاول أن يبدو قويًا، لكنّ الجدران تحفظ أسرار الانهيارات الصغيرة التي لا يراها أحد.
في المستشفى، الأبواب مغلقة لكن القصص مفتوحة. تلك الأم التي تُمسك يد طفلها بحنانٍ لا ينكسر، وذلك الرجل الذي يُخفي دمعة وهو ينتظر طبيبًا يحمل كلمةَ أمل.
في المستشفى، يغيب اللون وتغيب ملامح الحياة .. الجميع متشابه، متساوٍ أمام الألم. لا مقاعد فاخرة، ولا أبواب مُذهبة، فقط أسرة بيضاء تحاول احتضان أجسادٍ متعبة، وأضواء ساطعة تخفي غياهب الخوف.
في المستشفى، الحقيقة تفرض نفسها عارية. لا مجال للتزييف، لا مكان للأقنعة .. هنا، الألم سيّدُ الموقف، والشفقة تصبح عملة نادرة .. هنا، نتعرّى من كبريائنا، ونتعلّم عن هشاشتنا، وندرك أنّ الرحمة باتت أقصى ما نتمنى.
في المستشفى، مصلى صغير يُناجي به المرء ربّه، بصوت خافت يفيض رجاء. السجاد متآكلٌ من أقدام المثقلين بالهموم، وصفحات المصاحف متجعّدة من أثر الدموع. ينحني الجميع بذات الانكسار، يرفعون أكفهم بارتعاشةٍ ويدفن كل واحدٍ منهم وجهه في كفّيه. الدعاء يعلو فوق صمت الأروقة، يبحث عن باب السماء المفتوح على الدوام، حيث لا حاجة لشفيع ولا مواعيد انتظار ولا عمليات مستعجلة.