طرِّفي بابك عشاني .. إيه أنا راجع أشوفك

نوافذ وأبواب

أكاد أجزِم أنَّ الأبواب أكثر وفاءً من النَّوافذ. انظر كيف تودِّع وتستقبل بذراعين مفتوحتين، وكيف لا تقبَل المنتصف. حتى في موارَبتها، تنتظر ريحًا إما لتخلعها أو تغلِقها تمامًا. النَّوافذ مُشرَّعة على القادِم والآتي، تتلصَّص من شقوقِها وتُفشي أسرارَ العابرين. النوافذ لا أمان لها ولا صديق.

تشبه النوافذ أفكارَنا والزمن. تُفتَح لتستقبل ما يأتيها من الخارج: غبار، روائح، هواء رطب وأصوات. وعندما تُغلق، تحتفظ بشيء من ذلك العبَث غير الحقيقيِّ في الدَّاخل. لكنَّها لا تحمِل سوى الشموس والانتظار، على عكس الأبواب التي تتلطَّخ بمشاعر الفراق المتكررة.

تقول الأسطورة إن التنهيدة تختار النافِذَة للرَّحيل، وتعير حزنها للطيور المهاجرة، وتنسى ذاكرتها عمداً على ريشة طائر تحملها الرياح، فتسقط مصادفة على سرير عاشِق قلقٍ أغلَقَ نافذته غير مدركٍ أنَّ زائرته قد شاركته المكان وانتهى الأمر.

للجوَّال والمتصفِّح نوافذٌ أيضًا، نفتح أحيانًا أكثر من واحدة في الجلسة نفسها، وعندما نرهق من التشتت، نضغط زرَّ الإطفاء ونحمد الله على نعمة الأصابع والتكنولوجيا.

النوافذ التي تحطَّمت بفعل الحرب يُعاد تركيبها، وكذلك الأبواب المخلوعة. لكن من يُعيد من كانوا في الداخل؟ سيجدون في نوافذ الروح خدوشًا كثيرة وبُقَع دمٍ واسعة. أوووه، هذه نافِذة الألم، ويُفضَّل إغلاقها سدًّا للذرائع.

لستُ ظلًّا عابِرًا، ولا نصًّا مكتوبًا على ظهر النسيان. أنا صديق الأبواب، أحبُّها، أصفقها، أعاتبها، أمازِحها، وأنقر بأصابعي عليها كأنها دف. أغازلها، أواجهها، أحملق فيها وأسألها عن الغائبين ..

وإنَّ للأبواب معاني لا تُحصى ..

فمن باب الوفاء .. الصمت الذي يقتحم حديثي فجأة، يجعل الكلمات تتوه منِّي، وتأخذني النظرات إلى ملكوتٍ آخر. ليس له تفسير سوى أن صورَة أحدهم مرَّت بالمكان، فقطعتني، فصمتُّ احترامًا لجمال الحضور ودهشة اللحظة وولادة القمر.

ومن باب الفضول .. النَّافذة التي تطلُّ منها على العالم تضيق وتتسع كحدقة عينِك. الأشياء تقترب وتبتعد، وأنت تتابع تفاصيلك الصغيرة تعانق تفاصيل العالم الخارجيِّ. يقودك شغف الاكتشاف، وحتى حين تصل، تشعر بالملل والرتابة.

من باب الحنين .. في فجر كل يوم يحدث عناق بين الأرض والسماء، بين من بقي وبين من رحل. عناق بلا أذرع، لكنه يحتضِنك بعمق.

من باب الجنون .. أسبَح ضدَّ التيَّار بكل قوتي، وإن أنهكني المسير. أخادع المرايا، فلا تعكس صورتي. أرقص على الماء بلا خوف، أمضَغ الغيم وأُسابِق الرياح. إنها لعبتي، وأنا بارع فيها!

من باب اليُسر .. أجد في البَساطَة حياة أخرى. كلَّما تخلصتُ من تعقيدات الأمور، اكتَشفت جمالَها الحقيقي. كأنني أعيش بين الحروف، أتذوَّق حلاوة الكلمة البسيطة وأغرق في بحر المعاني الصافية. الحياة تصبح أكثر وضوحًا عندما تنظر إليها بعين اليُسر، فتحمل أعباءك بخفَّة النسيم، وتجد في كل تحدٍ فرصة للاسترخاء والتأمل.

من باب الأمل .. في كلِّ صباح جديد تشرق الشمس حاملة معها وعودًا جديدة. أرى في بزوغ الفجر ابتسامة الكون، وفي بريق النجوم رسائلَ من الغد. الأمل هو القوة التي تدفعنا للاستمرار، لنحقق ما نؤمن به ونسعى نحوه بكل حماس وثبات.

من باب الذكريات .. أتجوَّل في أزقَّة الماضي، أسترجع لحظات صنعت منِّي ما أنا عليه اليوم. كل ذكرى تحمل في طيَّاتها درسًا وحنينًا، تعيدني إلى حيث بدأت، تذكِّرني بالأحلام الأولى والأصدقاء القدامى.

من باب السلام .. روحانيَّة الزمان والمكان، تسري الطمأنينة في القلب كنسيم الفجر .. هنا تلامس الأقدام أرضًا مشى عليها الحبيب المصطفى، تشعر بسلام عميق وأمان لا مثيلَ له. كل زاوية من زوايا المسجد النبوي تفيض بركة، وكل ركن يهمس بذكرى عطرة. في حضرة الحبيب، تسكُن الأوجاع وتتلاشى الهموم، هنا تُدرِك أنَّ كلَّ سلام ترتجيه، ما هو إلَّا ظل لسلامه ﷺ.

من باب الحب .. أنتِ الحاضِرة دائمًا، صاحبة المكان ومالكة المفتاح. في غيابك، يتجلى الحضور في كل زاوية وكلُّ نبضة قلب، وفي حضورك تُفتَح جميع الأبواب.

اشتراك
إشعار إلى
guest
1 Comment
الأقدم
الأحدث الأعلى تصويتاً
تعليقات مضمنة
رؤية جميع التعليقات
batoolqq
batoolqq
سبتمبر 21, 2024 12:18 ص

نص جميل جدآ، افتح بابك لاقرأ هذه النصوص التي تجعل روحي تحلق في مكان ما أخضر وشاسع في منتصف هذه الليلة ‘)

دام قلمك ودمت.

تواصل معي

لأن كل مشروع عظيم يبدأ برسالة، أرسلها الآن، وسأقوم بالرد عليك بأسرع وقت.