أحبّ السينما .. ليست بوصفها مادّة للترفيه أو الضحك أو تلك السينما التجاريّة التي تهدف للربح الماديّ أو سينما الأبطال الخارقين. إنما بوصفها لوحةً فنيّة ترتقي بالقيَم الإنسانيّة إلى أعلى وتسبر أعمق نقطة في ذواتنا، بوصفها مصباحاً يومض ليَ الطريق وتأخذني إلى أماكن لم أكُن لأتخيّلها أو أفهمها، بوصفها منبع أفكارٍ لأسئلة وجودية وأجوبة لطالما بحثت عنها، بوصفها علاج طبيعيّ لشخصٍ يُحاول استرداد حياته قليلاً. أحبّ السينما أكثر من الروايات أحياناً.
أصابتني حالة جمود بعد الزلزال الذي ضرب الشمال السوريّ والجنوب التركيّ في بداية هذا الشهر، وبالرغم من أنني بخير وجميع معارفي والأصدقاء هناك بخير إلّا أن قلبي بقي عند الضحايا وبلدي المنكوب الذي لا أستطيع تقديم شيءٍ له. فظللت متسمّراً لأيام كل ما أفعله هو تحديث صفحة الأخبار كل دقيقة، توقّفت جميع أنشطتي الحياتيّة، لا عمل، لا إبداع، لا اجتماعات، لا نوم، لا شيء .. أحاول جاهداً استعادة حياتي الطبيعية، أن أعمل بتركيز، أمشي في الشوارع كابحاً شرودي، أن أقود السيّارة ولا أرَى المباني تتمايل كبندول الساعة، أن أشاهد فيلماً كوميدياً وأضحك على سخافة النكات، أن أتكلّم على سجيّتي مع من أحب. لا مفرّ .. في النهاية، كانت السينما هي الحل للخروج من حالة الجمود هذه.
شاهدتُ خلال العشرة أيامٍ الماضية فلماً مختلفاً كل ليلة، بعضها أفلام جديدة صدرت للتوّ. وبعضها أفلام ضاربة في القِدَم كنت أؤجّلها حتّى يحين وقتها؛ وقد حان. كما أن بعضها أفلامٌ كنت قد شاهدتها من قبل لكنني رغبت في مشاهدتها مجدداً .. ما يجمع كل تلك الأفلام هي أنّها أفلامٌ إنسانيّة ثقيلة، لو لم أكُن بحالة حزنٍ عميقٍ لما استطعت مشاهدتها تباعاً، ولتركت عدة أيام بين كل فلم وآخر.
على كل حال، سأورد هنا الأفلام التي شاهدتها في الليالي المنصرمة من الأحدث إلى الأقدم، مع رأيي المختصر (أو ربما المُفصّل) عن كل فيلم منهم:

Women Talking (2022)
أحبّ الأعمال المبنيّة على الحوار، أعمال مثل The Mother, Last Man On The Earth, Black Bird وغيرها، وهذا الفيلم هو أحدثها وأجملها على الإطلاق. فيلم يأخذنا في حوار طويل مع عصبة من النساء من كل الأعمار يتحدّثن عن سنوات من الاضطهاد، وعن خيارهنَّ ما بين الاستسلام أو القتال أو المغادرة، عن خيارهم بين المُسامحة والغفران أو الحقد والانتقام. بأسلوب مسرحي رائع وكتابة ممتازة ترمي بوجه المشاهدين مجموعةً من الأسئلة الأخلاقيّة التي جعلتني أُبحِر في التفكير. الجميل في هذا الفيلم أنه قد صدر في 2022 في عزّ الأفلام الممتلئة بالأجندات الليبرالية اليسارية ودعم هوليوود لهذا النوع، ومع ذلك نرى فيلماً نسائياً صحيح، لكنّه ليس نسوياً.
يعتبر هذا الفيلم أحدث الأفلام في القائمة، صدرت نسخته الرقميّة قبل عدّة أيام وحسب، وشاهدته فوراً بدون أيّة معرفة مسبقة عنه سوى أن فرانسيس مكدورماند تمثّل فيه، لكن للأسف دورها في هذا الفيلم بسيط جداً ولا يُذكَر، مع ذلك عوّض غيابها الأداء المبهر لإحدى الشخصيات في مشهدين أقل ما يقال عنهما رائعين.
الفيلم ببساطة أعجبني، وأجده أفضل فيلم أُنتِجَ في 2022. سأظلّ أتذكّر الليلة التي شاهدت فيها هذا الفيلم لبقيّة حياتي، لكن لا أعتقد أنني سأشاهده مجدداً. فهو في الحقيقة فيلم مؤلم حزين ثقيل جداً .. في الحقيقة الكثير من الأعمال التي تتعامل مع ظُلم المرأة كثيمة أساسيّة (أقربها handmaid’s tale) لكن هذا العمل قدّم الموضوع بطريقة مختلفة وبشكل مختصر وأكثر إيلاماً.


The Banshees of Inisherin (2022)
شاهدتُ هذا الفيلم قبل شهر عندما صدرت نسخته الرقمية، وعدتُ وشاهدته قبل أيّام أيضاً.
يمكن تلخيصه بجملة واحدة: شخص استيقظ ذات يوم ليكتشف أنّه لم يعد يُحبّ صديقه. هل يمكن صناعة فيلم كامل من هذه الجملة؟ في الحقيقة نعم، بل هو فيلم ترشّح للأوسكار أيضاً! ليس هناك الكثير لأحكيه عنه سوى بعض الأفكار المتفرّقة التي دونتها عندما أنهيته في المرّة الأولى:
-
- الحياة عبارة عن عذابات سرمديّة، ولو أننا تمنّينا الخلود أو العيشَ أكثر فهذا يعني أننا نتمنّى العذابات أكثر.
-
- قد تستيقظ ذات يوم وأنت في منتصف العمر من نومك، ويختلج بداخلك شعور بأن الحياة تضيع منك وأن الوقت قد نَفِذ ولابدّ من اتخاذ قرار ما لتُرضي به غريزتك الوجوديّة لا أكثر.
-
- كن حريصاً على الابتعاد عن الأشخاص المملين الذين لا يُضيفون شيئاً لحياتك.
-
- من لم يتحمّس معك عندما تتحدّث عن بُراز البهيمة التي تملكها، فهو لا يحبّك. فالحب هو أن تهتمّ لما يهتمّ به حبيبك أيّاً كان.

The Father (2020)
في كلّ مرة أشاهد فيها هذا الفيلم أتأثّر به، لعلّ تأثري كان بسبب خوفي من المستقبل المحتوم عليّ أن أكون وحيداً فيه والذي مهما حاولت تغييره أفشل باستمرار .. ما يميّز فلم الأب أنه جعل المشاهدين يبدون كأنّهم مرضى، وهذا أسلوب لم نعتده أبداً في الأفلام المتعلقة بالأمراض بأداءٍ بديع للسير آنتوني هوبكنز الذي استحقّ الأوسكار عن هذا الدور بجدارة. في نهايته يقول البطل: أشعر أنني فقدت أوراقي .. لم أجد أبلغ من هذه العبارة لوصف الروح حين تتعرى كشجرة.

I’m Thinking of Ending Things (2020)
كتبت مقالة منفصلة خاصة بهذا الفيلم منذ سنتين، يمكنكم قرائتها من هنا.

(Nocturnal Animals (2016
لو كنتُ عالم اجتماع وأضع نموذج هرمي حول صفات الإنسان البطل الخارق الحقيقي، فسيعتلي قمَّة الهرم “التجاوز”. وأقصد هنا بالبطل الخارق هو الإنسان العادي الذي يعيش في الشرق الأوسط ومع ذلك استطاع المحافظة على عقله ويؤدِّي مسؤولياته على أكمل وجه وينتصر على نفسه مراراً وتكراراً ضد ظلم الحياة، ويحب الحياة. نعم أعتقد أن التجاوز/القدرة على النسيان/التكيُّف هو أكثَر أمر يجعل الإنسان خارقاً.
لكن كيف يمكن قياس مدى “بطولة” هذا الشخص؟ لابدَّ أن يكون هناك معايير لذلك، وقد وجدت أنا ونفسي وذاتي ٤ معايير بالفعل، لكن ما سوف أحكي عنه هو المعيار الذي يعتلي رأس الهرم، وهو التجاوز. وهي ذات القيمة التي يحكي عنها فلم Nocturnal Animals.
الآن لنكن واضحين، الأساس في هذه الحياة هو الفقد، مهما طالَت مدة العلاقة، مهما شعرت بالأبدية، ففي النهاية سيكون هناك فقد. طالما تنفَّست أول مرة وقد خرجت من بطن أمك فهذا يعني أنك كتبتَ على نفسك الفناء، فقدت أبويك، عِش حزنك لا بأس لكن الآن عليك الإعتماد على نفسك. فقدت عملك، عِش حزنك لكن الآن عليك البحث بسرعة عن عمل آخر. فقدت زوجتك وحبيبتك، عِش حزنك بالكامل لا بأس لكن الحياة سوف تستمر. وهكذا بما أنك قادر على تجاوز من فقدتهم وتكييف حياتك بطرق جديدة والبحث عن حلول بأقل الأضرار الممكنة، فهذا يعني أنك بطل خارق.
وهذا بالضبط ما استطاع بطلنا فعله، لقد تجاوز علاقته القديمة ومضى في حياته ولم يلتفت إلى الوراء، بل حتّى أنّه ألّف روايةً كانت أشبه بالانتقام من زوجته التي فضّلت رجلاً غيره، روايةً يُخبرها من خلالها أنّها أصبحت في طيّ النسيان، وأن الشّاب الجبان الضعيف الذي كان يخاف من التغيير في شبابه، ما عاد كذلك. وفي المقابل، نكتشف تدريجياً أن زوجته لم تستطع حتّى الآن وبعد مضيّ 20 سنة تجاوز هذه العلاقة، لذا ظلّت عالقةً في الماضي رغم ادّعائها أمام الناس أن كل شيءٍ على ما يرام.
التجاوز والعلاقات هي الثيمة الرئيسية في هذا الفيلم، إلّا أنها ليست الوحيدة. فهذا العمل مليء بالرمزيّات العميقة التي قد يخرج المشاهد مُتخماً بها.

The Truman Show (1998)
فيلم ترومان يتركنا بمجموعة أسئلة مافتئ الفلاسفة والعلماء يسألونها من فجر التاريخ، ولأجل فهم العالم من حولهم يقوم الفلاسفة بالتشكيك فيه .. هل نملك إرادة حرّة؟ هل نعيش بعالم حقيقيّ؟ كيف يمكننا التأكد؟ يقول سقراط بما معناه أنّ العالم الغير مفهوم لا يستحقّ أن نعيش فيه، لذلك طرح تلك الأسئلة على نفسه وعلى أصدقائه، وظلّ السؤال مطروحاً عبر الفلاسفة الإغريق واليونانيين ثمّ المسلمين كابن رشد والغزاليّ ومروراً بفلاسفة عصر النهضة الأوروبية .. وهي ذات الأسئلة التي يطرحها هذا الفيلم. حيث عاش البطل ترومان حياته كلّها منذ لحظة ولادته كنجم برنامج في تلفزيون الواقع reality show وهو غير مدرك أن العالم حوله عبارة عن استديو إنتاجيّ ضخم: زملائه، أمه، زوجته، أصدقائه، جميعهم ممثّلون. وبعد عدّة أسئلة طرحها ترومان على نفسه اكتشف الحقيقة أخيراً. ثم هناك تلك النهاية الشبه مفتوحة للفيلم، هل سيُغادر ترومان الاستوديو؟ أم سيُفضّل الحياة التي قُدّمَت له؟
الفيلم كوميدي، لكنّها الكوميديا التي تجعلك تضحك من نفسك، تجعلك تدرك مدى تفاهتكَ في هذا العالم الرأسمالي الذي تحكمه مواقع التواصل، العالم الذي يكون فيه عدّاد الإعجابات هو الفيصَل في احترام المرء لذاته، صحيح الفيلم صدر قبل عقدٍ من بدء شبكات التواصل الاجتماعي إلّا أن صُنّاع الفيلم بطريقة أو بأخرى تنبّؤوا بما ستؤول إليه حال المجتمعات الاستهلاكية. فمثلاً، في خضم معاناة ترومان وانهياره العصبيّ، نرى الجمهور حول العالم يُشاهده بحماسٍ كأنّهم يُشاهدون مسلسلاً ما، ويتفاعلون مع أحداث حياته “الحقيقيّة” كتفاعلهم مع مباراة كرة قدم ..
الحقيقة أنّ الفيلم يحتاج مقالاً منفصلاً قد أكتبه يوماً ما.


The Legend of 1900 (1998)
هذا الفلم ببساطة: مذهل. تحفة فنية خالدة بجميع المقاييس، من قصة بسيطة مذهلة، شخصيّات مثيرة للاهتمام، موسيقى آسرة. يتحدث الفيلم عن قصة طفل وُجِد على ظهر سفينة تُبحر بشكل مستمر بين أوروبا وأمريكا، لأبوين مجهولين الهوية، مما نتج عن ذلك نمو الطفل وعيشه طوال حياته على ظهر السفينة دون أن تلامس قدميه أي بقعة أرض طوال سنينه وحياته. كما قيل في الفيلم: إنّكَ لا تنتهي ولا ترحل طالما لديكَ قصّة جيّدة ولديك إنسانٌ ترويها له. قصة أسطورية تجعلك تتساءل بداخلك عن مدى صحتها وتتمنى لو أنها بالفعل موجودة، فهي قصة يجب على كل شخص أن يسمعها. صدقاً لا أظنّ أن هناك كلمات قد تصف الجمال في هذا الفيلم، لذلك لن أتحدّث عنه حتى لا أبخسه حقه.

Life Is Beautiful (1997)
أعترف أنني أكره الأفلام الحربيّة ولا أعطيها فرصة أبداً، لكن هذا الفيلم نصحني به من أثقُ برأيه، لذا شاهدته متوجّساً في المرّة الأولى وأحببته .. ثمّ شاهدته مؤخراً وأدركت أنني ظلمتُه، فكلمة “أحببته” هي أقلّ وصف لهذه التُحفة.

(Cinema Paradiso (1988
من أمتَع الأفلام التي شاهدتها في هذه الليالي العشر .. فلم عن حُب السينما، وهو السبب الذي دفعني لكتابة هذه القائمة، لأنني ببساطة، إنسان يحبّ السينما.

The Sound of Music (1965)
هذا الفيلم الذي بُنيَ عليه أحد أجمل مسلسلات الطفولة لحن الحياة والآنسة صفاء اللطيفة .. وهذا سبب كافي لمشاهدته.