تأخَّرتُ كثيراً جداً .. لكني وصلت بالنهاية !
لا أذكر بالضبط كم عدد الأشخاص الذين نصحوني بضرورة قراءة ملحمة الكتب المنسيَّة، ولا أذكر كم مرَّة قرأت الفصل الأول ثُمَّ أغلقتها مُتحجِّجاً أن الأسماء صعبة (وهي كذلك فعلاً) لكن الآن وبعد أن أنهيتها بتُّ أعرف أنني تأخرتُ كثيراً جداً بلا أيِّ سبب .. نعم هذه من نوع الأعمال التي ما إن تُنهيها حتَّى تقول في نفسك: وين هالرواية من زمان؟
“هذا المكان سر يا دانيال، إنه معبد، حرم خفي، كل كتاب أو مجلد هنا تعيش فيه روح ما، روح من ألفه وأرواح من قرؤوه وأرواح من عاشوا وحلموا بفضله؛ وفي كل مرة يغير الكتاب صاحبه، أو تلمس نظرات جديدة صفحاته، تستحوذ الروح على قوة إضافية.”
بعدَ حقبة الحرب الأهليَّة الإسبانية، والتي كنتُ أجهل عنها الكثير قبل هذه الرواية، اصطَحب سيمبيري الأب ابنه دانيال إلى مكتبة سريَّة تُدعى مقبرة الكتب المنسيَّة، وجرت العادة هناك أن يقوم الزائر في أوَّل مرَّة باختيار كتاب ما وتبنِّيه والاعتناء به. وهكذا اختار دانيال رواية “ظل الريح” لمؤلِّفها خوليان كاراكس الذي يكتنفه الغموض، ولم يكُن يعلم أنَّ روح من ألَّفه صارت مُصاحبة له.
“ذات يوم، كان أحد زبائن المكتبة يقول: «لا شيء قادر على التأثير في القارىء أكثر من الكتاب الأول الذي يمس القلب حقاً، إذ أن صدى الكلمات التي نظن بأننا نسيناها يرافقنا طوال الحياة، و يشيد في ذاكرتنا منزلاً سنعود إليه عاجلاً أم آجلاً. لا يهم حشد الكتب الأخرى التي سوف نقرؤها. ولا عدد العوالم التي سوف نكتشفها، و لا حتى مقدار الأمور التي سوف نتعلمها ثم ننساها». أما بالنسبة إليّ، فسيبقى ذلك هو الكتاب الذي أنقذته من ظلمات مقبرة الكتب المنسيَّة.”
وهكذا بمرور الوقت، يستحوذ ظلّ الريح على حياة دانيال، مما يجعله يبدأ في طرح الأسئلة حول الكاتب خوليان كاراكس، حيث أن هناك أحدٌ ما يُحاول التخلُّص من جميع أعماله وكُتبه ومحو كل أثر له .. إنَّها قصَّة حب وكراهية وأحلام وأمنيات الشباب، جميعها في ظلِّ الريح.
عندما انتصفت بالقراءة، أدركت أنني أمام رواية عظيمة، هذه أوَّل تجربة لي في الأدب الإسباني وأول تجربة مع كارلوس زافون، وفوراً بعد أن انتهيت من الكتاب صار زافون هو الكاتب المفضل الثاني بالنسبة لي بعد هاروكي موراكامي. وقد كان اختيار هذه الرواية بعد توقُّفني عن قراءة الروايات لسنة كاملة اختياراً موفَّقاً سيجعلني أرغب بإكمال قراءة هذه الرباعية والعودة لعالم الروايات.
أحببت هذا الكتاب لدرجة أنَّي أشعُر بحنين الآن لتلك الشخصيَّات التي تركتُها فيه، ورغم أن الشخصيات كثيرة، أعني أنها كثيرة جداً جداً، إلا أن زافون أعطى لكل شخصيَّة حقها وجعل القارئ يرتبط معها بالمجمل. .. إنه من النوع الذي ما إن تنهيه حتى تشتاقه، وعندما تحاول الحديث عنه ستخونك الكلمات .. لكن ها أنا ذا أحاول ..
الحبكة والرجل عديم الوجه –
أعجبني الربط بين حياة دانيال وخوليان، كلاهما نشآى في عائلة فقيرة، كلاهما أحبَّا فتاة من عائلة غنيَّة وكان شقيقها صديقاً مقرَّباً له، كلاهما أثارا غضب الأب والأخ، وكلاهما اضطرا لخوض معركة من أجل الحب. وهكذا يؤكِّد زافون أن الكتاب قد استحوذ على دانيال بالفعل. لكن بمجرَّد اكتشاف دانيال صلة القرابة بين خوليان وبينيلوب حتَّى توقَّفت المقارنات وسلك كل شخص منهم طريقاً مختلفاً، لكن هل هذا يعني أن دانيال هو شقيق بياتريز؟ هل بحث عن هذه الحقيقة أم أنه اختار تجاهلها وحسب؟ على كل حال، ترك لنا زافون هذه الأسئلة مفتوحة (ربما لا أدري، ربما قد يُكشف عن هذه التفاصيل في الأجزاء الأخرى) واو، حبكة مثيرة للاهتمام!
سخط خوليان على نفسه بدا واضحاً، والصدمة التي أثارتها رحيل بينيلوب بدا جليَّاً .. لقد كان خوليان يكتب إليها، والآن بعدما رحلت لماذا يكتب؟ بالمناسبة، توقَّعت منذ البداية أن يكون الرجل عديم الوجه هو نفسه خوليان، لكني لم أتوقع ذلك الإلتواء بأن تكون بينيلوب شقيقته من أبيه. أعني أن مسألة والدته العاهرة ذُكرت مرَّة واحدة في بداية الكتاب ولم تُذكر مرة أخرى، وهكذا يوحي الكاتب لقرَّاءه أنها مسألة هامشية، ولكن حبكة القصة كلَّها ستكون بسبب هذه المسألة الهامشية.
أحببت برشلونة .. أنا عموماً أحب الأندلس وغرناطة وقرطبة ومجريط، والآن أُضيفت برشلونة إلى القائمة. في كُل مرَّة يذكر فيها الكتاب اسم معلمٍ ما أو شارع أو ساحة، كنت أقوم بالبحث عنه والسير في شوارعها في Google Street View. ويا الله كانت تجربة جميلة وكأني عشت مع الشخصيَّات فعلاً. وأحسست أن برشلونة هي المكان المثالي لهذه الرواية.
يعيب الكتاب أمر واحد فقط، وهو النهاية الهوليوودية للرواية، للأسف لم يمُت فيها أحد سوى “الأشرار”، بل وعاد خوليان للكتابة، وتزوَّج دانيال بعشيقته، وعاشا في سعادة وهناء، يا سلام! هذه نهاية تليق بالأطفال بصراحة .. لكن مع ذلك لا تُنقِص من الكتاب شيء.

فيرمين الفنان وطريقة جذبه للنسوان –
بالتأكيد فيرمن هو الشخصيَّة المفضلة، فيرمين الشخصية الساخرة ذو اللسان السليط، لا يكاد يظهر بحوار مع دانيال إلَّا وأضحك فعلاً على نكاته. وهو بالمناسبة بطل القصَّة الحقيقي الذي يُحرِّك الأحداث. هو من نصَح دانيال ببدء الخطوة الأولى مع بياتريز، هو من شجعه للبحث حول خوليان وإسحق وبينيلوب وميغيل. فيرمين لم يكُن إنسان (هذا ما قاله بنفسه) إلا بعد أن تعرَّف على برناردا وأراد تكوين عائلة معها، وهنا يجود بخبرته اللامتناهية مع النسوان على مسمع دانيال المراهق الذي يحتاج لهذه الخبرة بطبيعة الحال، وعلى مسمع القرَّاء كذلك .. وهذه بعض من طرقه المفيدة جداً:
- أعرف أكثر منكَ بكثير فيما يتعلَّق بالنساء والمسائل الدنيويَّة. وكما يُعلِّمنا فرويد، فالمرأة ترغب بعكس ما تُفكِّر به أو تأكد عليه … أما الرجل، فكما نعلم جميعاً، يخضع فقط لتنبيهات جهازه التناسليِّ والهضمي.
- كل مافي الأمر أن الرجال، وبالعودة إلى فرويد، يسخنون مثل القنديل: يشتعل في لحظة ما ويبرد في اللحظة اللاحقة فوراً. أما النساء، وهذه حقيقة مثبتة علميَّاً، يسخنَّ مثل حديد المكواة، أتفهمني؟ شيئاً فشيئاً على نارٍ هادئة، مثل حساء الإسكوديلا باللحم والقرنبيط والحمّص. ولكنهن حين يشتعل لا يستطيع أحد أن يُطفئهن. يصبحن مثل الأفران اللافحة في بيسكاي.
- إن قلب المرأة آلة معقدة، لا يهتز لطيش الصبيان الجلفين. إن أردت أن تحظى بقلب امرأة حقاً، فعليك أن تتعلم كيف تفكر مثلها، وما تبقى من مداعبات تسلب عقلك وشرفك تأتي تباعاً.
- اسمع يا دانيال، النساء أذكى منَّا، باستثنائات نادرة، وهن أكثر صدقاً مع أنفسهن إزاء ما يرغبن فيه. أما أن يُظهرن لك ذلك فهذا شيء آخر كلياً، الأُنثى يا دانيال لُغز الطبيعة. إنها مثل برج بابل، إنها متاهة، إن تركتَ لها الوقت للتفكير في الأمر فقد خسرتَ كل شيء. تذكَّر: قلب ساخن وعقل بارد، هذا هو سرّ زير النساء.
الترجمة –
الترجمة فن، وليست مجرد نقل للجمل، بل هو نقل روح القصة والمضمون إلى لغة أخرى، ومعاوية عبد المجيد فنان مبدع .. وهذه هي أقل ما يمكننا وصفه بها .. الرواية لولا أسمائها الإسبانية لظننت أنها عربيَّة صرفة. أجاد المترجم نقل التعابير والألفاظ إلى ثقافتنا العربية، حتَّى صارت الشخصيَّات قريبة منا ومألوفة بشكل كبير، وأكاد أجزم أن النسخة العربيَّة جميلة بقدر اللغة الأصلية للرواية بل وأكثر.
بالمناسبة، لم اقرأ حرفاً واحداً من الرواية، بل استمعت إليها عبر تطبيق ستوري تيل بصوت الراوي قصي حمود الذي أجاد القراءة بشكل مُتقن .. صوت فخم، وأداء رائع، وتمثيل جميل جداً أعطى لكل شخصيَّة طابعاً دراميَّاً. كانت هذه أحد أفضل تجاربي في القراءة السمعيَّة على الإطلاق. فشكراً لزافون وشكراً لمعاوية عبد المجيد وشكراً لقصي حمود .. كانت تجربة مختلفة جداً.
وأخيراً، الرواية فيها مزيج رهيب بين السوداوية القاتمة وعنفوان الشباب المليئ بالأمل، صراع بين الحب والكراهية، السُلطة والثوَّار. إنها قصَّة تجمع كل ذلك مع انتقالات مميزة بين الماضي والحاضر .. قصة تأخذك بين في رحلة كاملة مع شخصيات إنسانيَّة نابضة بالحياة وغريبة الأطوار ورائعة وملتوية وحقيرة .. هذه قصَّة من الأدب العالمي وستعيش طويلاً بين القُرَّاء.