ثلاث سنوات مضت منذ أن فتحتُ هذه المسوّدة لأكتب الجزء الثالث من نظرتي الغير مهمة لعالم موراكامي الموازي، ولو أنني في الأيام الماضية لم أفتح المسوّدات لأبدأ بحذفها و”فلترتها” لما تذكرتها .. لكنَّها أومامه الحبيبة (أو أُميمَة كما اعتدت على لفظها) هي التي أعادتني وأنعَشت ذاكرتي .. لأعود وأقرأ ما كتبته قبل ثلاث سنوات وأعتصر ذاكرتي (التي يبدو أنَّها لم تمُت كليَّاً بعد) وأتذكَّر شيئاً من هذا العالم.
إذاً لنرى .. أين وصلت؟
كنت أقول أنَّ الإجابة على السؤال الأزلي “لماذا قمرين؟” سأتركه للجزء الثالث عندما أتحدَّث عن الحب في العالم الموازي. والآن بعد كل هذا الوقت، أعتَرف أنَّ فهمي قاصر عن بعض رمزيَّات موراكامي، لكنِّي بالتأكيد لم أؤجِّل كتابة الجزء الثالث لأني لم أجد الإجابة، بل الكسل هو ما جعلني أؤجلها حتَّى الآن .. وهو أصلاً جزء صغير لم تجتمع الظروف (النفسية والمزاجية) المناسبة للكتابة عنه .. ولكن أشعُر برغبة ملحَّة في الكتابة الآن ..

إذاً، لماذا بحقِّ الناس الصغار هناك قمرين؟
الحب في عالم موراكامي مُعقَّد -كعادته في جميع رواياته- لكنَّه دائماً يتمحوَر حول نفس الفكرة: هناك شخصٌ واحِد أوحد، لا يُشبه أحداً ولا يُمكن تعويضُه ولا تجاهله ولا اجتنابُه، لا تسير عليه قوانين البشر المنطقيَّة، شخصٌ ستشعر معه بالحياة تسري في عروقك كأنك لم تحيى من قبل، شخصٌ يجعلك نتصرَّف بطُرق لم تتخيَّل نفسك نتصرَّف بها يوماً، شخصٌ ستكسر معه جميع الحواجز والخطوط الحمراء بلا خوف ولا ارتياب، شخصٌ سيحلو الكلام معه لساعات، شخصٌ ستحيى حياتك بالكامل شاعراً بالحنين لأيامه الماضية والشوق لأيامه الآتية، شخصٌ يمنحك الأمل والقدرة على العيش، يُعيد لك ابتسامتك، ويُذكِّرك بطفولتك، وتستنشق من خلاله رائحة الجنَّة، شخصٌ تُحلِّق معه نحو الأعلى فتبدو وكأنك تمشي على الغيم واثق الخطى تقفز من غيمة لأخرى بلا خوف من السقوط، شخصٌ سيكون لكَ قمراً في لياليك المُظلمة .. هكذا كان كافكا تامورا للآنسة سايكي، وهكذا كانت ناوكو بالنسبة لـ تورو واتانابي، وهكذا كانت أومامه بالنسبة لـ تنغو .. أومامه هي أومامه ولا أحد سواها .. وحتَّى بعد 20 سنة من افتراقهما لم يستطع أن يتخطَّاها، وظلَّ يعيش على أمل اللقاء بها.
ولهذا السبب كان هناك قمرين، فعلى مدى سنواتهما التي افترقا فيها، كانا يعيشان بعالَمين مُنفصلين مُضطربين معزولَين عن الحياة، وهذا الاضطراب أثَّر على العالم “الفنتازي” من حولِهم. وهكذا .. حينما عثرا على بعضهما عاد العالم بطبيعته كما كان واكتملَ القمر.
وأنا لا أختلف عن تنغو كثيراً .. ففي الليلة التي يكتمل فيها القمر .. قمري .. سأرتدي عباءة مبخّرة بجمر الجنون والمجون .. وأسري إليها على جناحَي شوقٍ وشبق، سأعبر برزخ الغرفة حافياً على رؤوس أصابعي وأغلو في دنوّي قابَ خطوتَين من المحراب، سأهتك الحُجب عند سدرة المنتهى .. وفي سُويعة عربدة .. سأقضّ المضاجِع، سأُراقب القمر وهو يخسُف ثمَّ يُنير .. تماماً كما فعل تنغو !
وانضم الناس الصغار الستّة الآخرون: هاها.