دائماً ما يربِط عقلي الناس بالأغاني. كُل أغنيةٍ مرتَبطة بشخصٍ ما أو موقفٍ ما، وهناك أشخاصٌ ربما أربطهم بأغنيتين أو ثلاث أو عشرة. خُذ عندك مثلاً أغنية محمد عبده “بس لحظة” التي أربِطها تلقائياً مع صديقٍ لي، سمعتُها معه أوَّل مرَّةٍ وبكى حينها على فِراق ابنَة خالته التي يُحبُّها. وأغنية أخرى لمحمد عبده “يا راحلة” المربوطَة مع فتاةٍ في الماضي حينَ كنتُ غرَّاً وظننتُ أني أُحبُّها بتجربةِ حُبٍّ فاشلة من طرفٍ واحد، رحلتْ هيَ وبقيَت روعةُ الأغنية، وكثيرٌ من الأغاني التي لا أذكُر بالضبط لماذا ربطتها مع هذا الوجه أو ذاك. وهكذا .. الناس عندي أغاني.
وأنا أيضاً، حينَ يراني أصدقائي يتذكَّرون الشاورما، يتذكَّرون عبادي الجوهر وهاروكي موراكامي. محظوظون أصحاب الخيال أولئك الذينَ يربطونَ الأشياء بالأشخاص، يستطيعون استحضار أرواح من يُحبُّون بسهولة.
لفترةٍ طويلة، كُلَّما تذكرتُ دمشق أتذكَّر جدِّي. وبالنسبةِ لفتى دمشقيٍّ استنشَق تُراب الصَّحراء أكثر من استنشاقِه للياسمين كان هذا أكثَر من كافٍ. فقد كانَ جدِّي نموذجاً للرجل الشاميِّ الذي يستيقِظ من على بكرة الصبح، ويكدُّ في عملِه، يحفَظ أزقَّة ساروجا والصالحيَّة والحميديَّة ويصلِّي في الأمويِّ الجمعة وينام في صحنِه ويُطعِم طيورَه خلفَ السور، يُساعِد جدَّتي في شطف أرض الديار ويوزِّع السكاكر على أولاد الحارة، ويذهب صباحَ العيد للتُربة ليشكُل الآس لأحبابِه. ثُمَّ حينَ توفَّي جدِّي انعَدمت لديَّ أيَّ رغبة لزيارة دمشق مرَّة أخرى، هو شعور اغتراب مُصاحِب منذ الصِغَر، شعور عدم الإنتماء لأيِّ شيء والذي يتعاظَم في أحيان ويختفي في أحيان أخرى. وفي آخر مرَّة زرتُ فيها دمشق لم أستَطِع إكمال أكثر من شهر وهربت عائداً إلى صحراء الرياض. بدت دمشق حينَ ذاك خاليَة، ناقِصة، مدينَة أشباح ذي فجوَةٍ هائلة، إثرَ غياب جدِّي عنها.
يُصرُّ حلمي على أن يتكرَّر .. ماشياً في حارات الشَّام القديمة، مُنتشياً لجمالِها الساحِر، مُعبَّئةٌ رِئتايَ برائحة الياسمين، ومرتوياً من مياه سبيل الفيجَة المُنتَشرة في الطُرقات على أرواح من رحلوا. أسيرُ وأسير، ولا أرَ في الشَّام سواها. لم أشعُر بحنينٍ للشَّام يعصِف بقلبي كهذا الذي أشعُر به في هذه الأيَّام، لم أشعُر بالإنتماء لتلك الأرض أكثر مما أن عليه اليوم، ولم أشتَق لوطني يوماً كما أشتاقُه الآن، ولم أشعُر بالفَخر كما أفخَرُ الآن. هناك دمشقٌ جديدة تلوح في الأفق.
هل جرَّبت ربط مدينة كاملة بأحدهم يوماً؟ وليسَت أيَّة مدينة، بل دمشق، أقدم مدينَة مأهولة في التاريخ. نعم .. إنها وطني الصغير، وانتمائي الطبيعيِّ .. أُدرِك أنها تختَصر دمشقَ بداخِلها، شوارع وحارات، بيوتٌ وأشخاص، وجريان نهر بردى، وحانات باب توما ومطاعمها، وأشجارها المُعمِّرة، وأحجارُها القديمة المُتراصَّة، وأسوارها العالية وبيبانُها السبعة الذين تمكَّنتُ من فتحهم. وحزنُها كحزنِ مدينَتها التي تكالَبت عليها الجيوش لاحتلالِها بتاريخٍ دمويٍّ حافل وظلَّت صامدة تستقبلُ اللاجئينَ بصدرٍ رحب، بُكاء الأمَّهات الثكالى، ونحيب الأرامِل واليتامى، وتشرُّد الفُقراء، وغيم أسودٌ يُسبب الفيضانات.
قد جادَ عليَّ الزمان بسماعِ ضحكتها المخمليَّة الرائقة، والتي تختَصر أصواتَ الباعَة على العربات والبسطات، وارتفاع الضحكات في ليالي السَّمر، وأصواتُ لعب الأطفال في الحارة، وأهازيج الأعياد، وتأويهات الأعراس، وحفلات المولد والطهور، والموشَّحات القديمة، وأصوات الأذان، والتراتيل المسيحيَّة، ولا أدري هل سيجود الزمان مرَّة أخرى لأتمكَّن من سماعه إلى الأبد. ولكن ما أدريه حقاً أنَّ دمشق الآن باتت هيَ، وأن كُل طرقي تؤدِّي إلى الشَّام، وحينَ أرى نفسي في دمشق لا أرى أحداً سواها.