يُحيط بمدينة دمشق القديمة سورٌ له عشرة أبواب، أحد هذه الأبواب العريقَة هو باب الجابيَة، وهوَ باب قُرَب أحد أهمّ الأسواق في المدينة، سوق مدحتْ باشا أو السوق الطويل أو كما يُسمّى سُخريةً سوق مطحش باشا كناية عن الزحام الشديد فيه. وهو أحد الأسواق الأثريّة في الشام التي يمتدّ تاريخُها لأكثر من ٦٠٠٠ سنة قبل الميلاد. هُناك، حيث السوق يمتدّ لشارع كامل وجادات فرعيّة أخرى، لكلّ جادةٍ منها اسم، عددٌ كبير من الدكاكين التي تبيع الأقمشة والمنسوجات، وحوانيت العطارة والأعشاب الطبيّة والبزورات، والحلاوة الطحينيّة والحلويّات الشهية المطبوخة بالقشطة والسمن العربيّ، مع عددٍ من مطاعم وجوامع وحمّامات السوق والخانات المُتشعّبة على كامل الطريق، ومقبرة باب الصغير ومحال بيع شواهد القبور والنحت عليها. تلكَ المنطقة تُمثّل بلاد الشّام كاملةً بكلّ اختلاف الأعراق من المسلمين والمسيحيين والسريان والكنعانيين والآراميين واليهود واختلاف المناطق التي يقدمون منها وطبقاتهم الاجتماعية، حيثُ يزورها الأغنياء والفقراء والتُجّار والفلّاحين من الغوطتين الشرقية والغربية وسهل حوران وعمّال الفاعل والبناء والتعتيل والمِهَن الأخرى، ومن كان يزور المدينَة يجب أن يمرّ على الباب والسوق حيث يُعتَبر مدخلاً رئيسياً للمدينة كما أنه قريب من المحطّة.
يذكر أهل الشام القدامى وأصحاب الخانات في السوق البائعين المتجوّلين في تلكَ الأزقّة، كُلّ منهم يُنادي على بضاعته، تنبعث موسيقى مِلؤها الحياة من تلك الحارات، كان يروي لي جدّي قصص ذلك الزمان، قصّة أحد الباعة تذكّرتُها فجأة. كان البائع الوحيد في كُل الشام الذي يبيع الكوسا المحشي، كان لصوتِه نَغَم جميل يجعلّ كُلّ من يمرّ بقربِه يُصاب بفضولٍ ليتذوّق طعامه، كان يُنادي: كوسااا محشي من ربّووو .. اللي داقوا ما رجعوا .. ياربي ما أكثر خلقَك ! ابتسمتُ، وسألت جدّي: ليش يعني اللي داقوا ما رجعوا؟!! فيُجيب جدّي بضحكة: معلوم ما بدن يرجعوا بعد ما ياكلوها! كان الزلمة يطبخ الكوسا مع اللب نفسه وبيطبخها بمرقة البندورة مع قطع كبيرة، وأوقات لما يكون إلو مراق بيحفرها وبيحشيها بعشر رزات بس. وسبحان الله شلون الله رازقه، وكان معروف كتير وكل اللي بيمرقوا من جنبه بيشتروا من عنده نتيجة الفضول، وما بيرجعوا مرة تانية، مشان هيك كان ينادي ياربي ما أكتر خلقك. مرة سألتو بينباع معك كل هاد؟ وهو جاوبني: الله وكيلك كل يوم بعمل شي ألف كوساية وكل يوم بشوف زباين جداد لأن الزبون يلي بياكل ما بيرجع بس الله بيبعت غيرو وبيجبرني.
ويضحك هوَ ويضحك جدّي .. رحمهما الله ..
كانت تلك إحدى ذكريات المدينة التي لا تموت .. ذكريات المدينة الباقية منذ فجر التاريخ قبلَ الاحتلال الأسديّ وتبدّل سُكّانها .. المدينة التي ستبقى باقيةً بعد فناء الأسد ..