
ما هوَ الفاصل بين عالم الطفولة الجميل وعالم الكِبار الوحشيّ؟
إنها القدرة على الخيال بالطبع. الصدمة التي تُصيب الطفل عندما يكتشف أن الشمس لا تأخذ سنّ الحِمار وتعطيه سنّ الغزال، وأنّ بابا نويل ليس سوى حكاية خُرافيّة، وليس هناك فارس سيأتي على حصان أبيض ويتزوّج الأميرة. هنا ينصدم الطفل أنه لم يعُد طفلاً، وهذا ما قالته كارمين لابنتها بطلة الفلم أوفيليا: “أنتِ تكبرين، وقريباً ستكتشفين أن الحياة ليست مُجرّد حكاية خياليّة. العالم مكانٌ قاسٍ، وسوف تتعلّمين ذلك حتى لو تألمتِ. السحر غير موجود لا لي ولا لك ولا لأي أحد”.
وهكذا فإن هذا الفلم يرسمّ ذلك الحدّ الفاصل بين العالمين من خلال المنعطفات الفظيعة والمؤلمة والخيالية والواقعية والبشعة والجميلة. الفيلم الذي صدر في ٢٠٠٦ وحصد ثلاث جوائز أوسكار وإشادة عالمية من النقّاد، ما زال مثيراً للجدل حتّى الآن. فيلم يوضّح أهمية العصيان الأخلاقي والأنانيّة الفاصلة بين الإنسانيّة والوحشيّة، وحرب الخير والشر مع عالم الطفولة البريء.
غالباً ما يتمّ تجريد القصص الخُرافيّة من أحداثها الأصلية السوداوية، وتتحول لحكايا بديعة تعكس القيم الأخلاقية العُليا للإنسان، لتصير مناسبة للأطفال، وهذا ليس توجّهاً جديداً، بل هيَ مُمارسة قديمة مارسها الأخوين غريم في كتابهم (وهما من أوائل من جمَع القصص الشعبيّة الخُرافيّة الألمانية). فمثلاً قصّة رابونزل في نُسختها الأولية كانت علاقة الفتاة مع الأمير علاقة جنسيّة بحتة، قام الأخوين وباقتراحٍ من أصدقائهم بإزالة العناصر الجنسية والعنف المُبالغ فيه والأجزاء التي يتعرّض فيها الأطفال للتعذيب أو الالتهام من قِبَل الوحوش وتعزيز الأفكار الأخلاقية المسيحيّة. ولا أريد أن أصدمكم، لكن قصة ليلى ذات الرداء الأحمر تنتهي بشكلٍ مفاجئ بأن يلتهمها الذئب، والصيّاد غير موجود في النسخ الأولية منها، القصة كانت بالأساس لتحذير الأطفال من الذهاب للغابة وحدهم.
وهكذا نشأت أجيال على هذه القصص الخُرافيّة المشوّهة، أجيال تصور قصص الفنتازيا ذات طابع العصور الوسطى أن الحياة فيها جميلة وبسيطة، ومع أفلام ديزني الكلاسيكية التي عزّزت لهذا المفهوم. حتّى جائت متاهة بان وأرجعت القصص الخُرافيّة لأصلها التي كانت عليه.


يدور الفيلم في أسبانيا خلال الحرب الأهلية عام ١٩٤٤، الكثير من القتل والدمار، الكثير من الجياع والمجاعات، زمنٌ قاسٍ يصعب فيه التصديق بالقصص الخيالية حين تكون الدولة فاشيّة.
يُقدم الفيلم قصّتين منفصلتين تمتزجان معاً خلال الأحداث، حيثُ يحكي عن الطفلة أوفيليا التي تنتقل مع والدتها الحامل إلى إحدى الثغور ليعيشا مع زوج أمّها الكابتن فيدال خلال الحرب. أما القصة الثانية كما وردت في بداية الفلم: “منذ زمنٍ بعيد في مملكة العالم السُفليّ، حيث لم يكن هناك ألم أو كذب، عاشت أميرة كانت تحلم بعالم البشر، حلمت بالسماء الزرقاء والنسيم العليل وشروق الشمس. وفي أحد الأيام، هربت الأميرة بعد أن تخلصت من حُراسها. وعندما خرجت، أعماها الضوء الساطع ومسح ذاكرتها بكل تفاصيلها. نسيت من هيَ ومن أين جاءت، وعانت من البرد والمرض والألم، وفي النهاية ماتت. والدها الملك كان متأكداً من أن روخ الأميرة ستعود، ربما في جسدٍ آخر في مكان آخر وفي زمنٍ آخر. وسيظلّ ينتظرها حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة. وحتى يتوقف العالم عن الدوران”. وهكذا تنتقل أوفيليا بين العالمين وتلتقي بمخلوقات أسطورية.
تعتبر قبائل البوشمان الأفريقية العالم السُفليّ كمكان يرتبط بالانتقال بين الحياة والموت، مكانٌ سحريّ حيث تذهب إليه الفتيات ويختبرن الأمور التي تُحوّلنهنّ إلى نساء كاملات حيث يفقدون برائتهم وطفولتهم. وهناك أيضاً تظهر المخلوقات الأسطورية الحيوانية التي تشبه الإنسان، كصديقنا بان الذي ظهر (في الميثيلوجيا الأغريقية اسمه فون أو اسمه الحديث بافومنت وهو مخلوق أسطوري نصف إنسان ونصف ماعز، وهو إله عبدة الشيطان). يمثّل بان الرابطة بين العالمين، بين عالم البشر الوحشيّ وعالم الخيال الطفولي. والمتاهة هي الحياة، والبحث عن الحقيقة المحفوفة بالمخاطر.
كل ما تريده أوفيليا هو أن تعود للعالم السفلي وتصبح أميرة فيه، وهو مكان ربما يكون أجمل بكثير من المكان الكابوسيّ التي أصبحت تعيش فيه مع أمها وزوجها فيدال. لكن تجد نفسها مضطرة للدخول بصراع بين الخير والشر، فيجب عليها إنقاذ شقيقها، وهذه التضحية ستجعلها تعود لمملكتها.


لكن ما هي مُكافئتها؟
إنه مكانها في مملكة العالم السفلي، عالم البراءة الرائع.
يمكن فهم الحبكة على أنها صراع بين الخير والشرّ، أو بالأحرى صراع بين الخير والشر والطفولة. حيث يتمثّل الشر في العالم الواقعي بـ الكابتن فيدال، القائد العسكريّ المُتحجّر، زوج أم أوفيليا، واللغز الذي نفهم من خلاله بشاعة العالم الخيالي. فالضفدع والرجل عديم العينين ما هو إلا إنعكاس له، وما يحدث مع أوفيليا هو إسقاط مباشر لمشاعرها اتجاهه. فدخولها للشجرة العملاقة التي يسكنها الضفدع الضخم تُقدّم صورة جنسيّة مجازيّة مع شكل فتحة الشجرة وتشابهها مع الأنثى ونفقها الضيّق التي تعكس حالة الأم الحامل الضعيفة، والتي تتجلّى بشكل أكبر مع نفور الدّم من الكتاب السحريّ قبل لحظات من سقوط والدتها بسبب مضاعفات الحمل ونفور كمّيات كبيرة من الدم. الضفدع دخل الشجرة التي كانت تأوي المخلوقات الخيالية، وبدافع شهيّته بدأ يقتل الشجرة ببطئ، تماماً كما كانت والدة أوفيليا مأوى لها قبل أن تتعرف فيدال الذي أخذ يقتلها ببطئ بسبب شهوانيّته وشغفه اتجاه إنجاب أطفال.
لكن جميع تلك التلميحات الجنسية تعني أيضاً أن الفيلم ممرّ لمرحلة البلوغ، وأن على أوفيليا الإنتقال لعالم الكِبار، وهذا يُفسّر أيضاً كهف الشجرة المهبليّ ونفور الدمّ من الكتاب، وارتباط ظهور القمر بدراً بعدم قدرتها على العودة، حيث أن القمر في كثير من الأساطير يدلّ على الخصوبة. وبالمثل، فإن النضوج بتطلّب منها التخلّي عن عالم البراءة وحكايا العالم الخيالي والالتفات للعالم الواقعي.
الرجل عديم العينين إسقاط آخر على شخصيّة فيدال، وربما عينيه اللاتي يستخدمهما لأكل دماء الجنيّات الأبرياء هو أحد المجازات الواضحة، فهو يملك طاولة عليها وليمة فاخرة، لكنه يغضب عندما تتناول أوفيليا حبّتي عنب. فيدال أيضاً يأكل دماء الأبرياء مجازاً، بدا واضحاً حين أطلق النار على الطبيب المعالج، حين تأزّمت الأمور وأمر الطبيب الآخر بإنقاذ ابنه على حساب حياة الأم، حين يؤذي الناس معتقداً أنه يؤذي المتمردين الاشتراكيين. يفعل كل ذلك برضى تام عن نفسه، مع تلذّذٍ بشرب إصبع التبغ، ونشوة فرح عظيمة. تماماً كالرجل عديم العينين الذي تلذّذ بقطع رأس الجنّيات.

فيدال في الفلم يُمثّل الصورة البشعة من الحياة التي لا ترحم، وأوفيليا هو رمز الطفولة الذي يصطدم بالواقع. وهكذا نصل للاستنتاج: في عالم مزّقته الحرب، لا يوجد مكان للبراءة الطفولية، سواء في هذا العالم أو في عالم الخيال. أصلاً، حتى المهمّات التي كان يأمر بها بان ليست بريئة بالكامل. لكن لكي تعود أوفيليا إلى العالم البريء، يجب أن تموت في هذا العالم، وهذا ما حدث.
اسم أوفيليا بالمناسبة هو اسم حبيبة هاملت وابنة بولونيوس التي تُجنّ بعد حادثة مقتل أبيها، جنونها يجعلها شخصيّة طفولية بريئة وحزينة.
أخيراً، لم أغطّي جميع جوانب الفلم رغم طول المقال، فأنا لم أتكلم عن رمزيّة جذع الشجرة السحريّ، ولا عن تضحية الطبيب، ولا عن الكائن عديم العينين الذي يرمز إلى العمى الأخلاقي، ولا عن عصيان أوفيليا الأخلاقيّ الذي أكسبها الخلود. وهذا هو الجمال الحقيقيّ في السينما العالمية، الفن لا لغة له، بل هو لغةٌ يفهمها الجميع، وكل شخص يختلف تحليله عن الآخر وهذا هو وجه الإبداع الحقيقي. (بالمناسبة هذا أطول مقال أكتبه عن فلم أو مسلسل على الإطلاق، شكراً كثيراً عزيزي القارئ إذا وصلت لهذا السطر :-) .. وشكراً للكورونا والحجر المنزلي الذي أتاح لي فرصة الثرثرة)
و”أكون أو لا أكون .. تلك هي المسألة”
أترككم مع أحد المقطوعات الموسيقية الرائعة في الفلم: