الدين في العالم الموازي
خلقَ موراكامي في ثُلاثيّته ديناً جديداً، لم يشرح الكثير من الأمور المتعلقة به، ولكن نستطيع استنتاج أن هناك أنبياء قدامى (فوكا-إري ووالدها) وأنبياء جدد (تنغو وأومامه) وهناك أيضاً الناس الصغار الذين يخرجون من أفواه الأموات ويُنفّذون إرادة الرب المجهول في هذا الدين. يجب أن يكون هناك نبيّين متزامنين بجسدين مختلفين لكنّهم يكوّنان روحاً واحدة أحدهم هو السميع (ربما أصوات الناس الصغار) والآخر هو البصير (الذي يراهم)، يستطيع الاثنان كتابة كتابهم المقدّس وقصّتهم الخاصة، فمثلاً تنغو هو من كتب قصة الشرنقة الهوائية ولم يدرك أنه يكتب قصّة سيعيشها إلا بعد رؤيته للقمرين، وأومامه بعدما أدركت أنها نبيّ، استطاعت تغيير الأحداث للالتقاء بتنغو. ويظهر لدينا مصطلحين هما المازا والدوهتا واللذان يُمثّلان مكوّنات الروح: العقل والجسد. يقول موراكامي بطريقة غير مباشرة أنك ستبقى في نصف جسد نصف ظلّ نصف روح إلى أن تلتقي بالدوهتا الخاصّة بك، إلى أن تلتقي بالروح المُكمّلة لروحك، وهذا بالضبط ما حدث مع تنغو وأومامه، لم يكتمل القمر ولم يصبح قمراً واحداً إلا بعد أن تلاقيا. ثم هناك الشرنقة الهوائية والتي فيما يبدو أنها علامة للنبوّة، عندما تظهر الشرنقة الهوائية فهذا يعني أن الناس الصغار قد وجدوا نبيّهم المنتظر. ظهرت الشرنقة الهوائية لتنغو عندما كان في المصحّة لدى والده وكان بداخلها مازا، وللمفاجأة كانت المازا بشكل أومامه .. نصفه الآخر. وكان ذلك من أجمل لحظات الرواية. ثمّ بعد ظهور المازا في الشرنقة تشعر أومامه بأنها حامل بطريقة ما، وتوقِن أن والد الطفل هو تنغو نفسه الذي لم تلتقي به منذ ٢٠ سنة !! والليلة التي حملت فيها هي ذات الليلة قتلت فيها زعيم التنظيم، وذات الليلة التي تيبّس فيها جسد تنغو وقذف مائه في فوكا-إري (ويااا سبحان الله لدينا في هذا العالم منيٌ يتدفّق عبر الواي فاي!). وهذه هي أكثر فكرة شاذّة وغير منطقية في الرواية. ولكن لقد تلاشى المنطق منذ ظهور القمرين.
أومامه نشأت في عائلة ملتزمة دينياً، لكنّها استطاعت التمرّد في سن الحادية عشر وأخذت منحة كاملة في دراستها، كانت تجبرها والدتها على الطواف حول المنازل أيام العطلات للتبشير في الدين. وكذا كان يفعل والد تنغو، كان ملتزماً دينياً -إن صح التعبير- لدى شبكة NHK، وكان يأخذ ابنه في جولاته لتحصيل الاشتراكات، تنغو استطاع التمرّد أيضاً في نفس السنّ وحصل على منحة. وكلاهما لم يؤمن بإله -أو لم يُفكّروا بالموضوع أصلاً. لكن تتجلّى فكرة الدين التي يريد موراكامي إيصالها في الجزء الثاني عندما تقوم أومامه بقتل زعيم تنظيم ساكي-جاكه الذي يُخبرها بدينهم السريّ ويدور بينهم هذا الحديث:
“«هل تعتقدين أن الحب هو كل ما يحتاجه المرء؟»
«نعم»
«والآن، هل حبّكِ هذا موجّه نحو فرد بعينه؟»
«نعم، إنه موجّه نحو رجلٍ محدد.»
«جسدٌ عاجز وسقيم، وحبّ مطلقٌ خالٍ من الظلال … لا يبدو أنكِ بحاجة إلى الدين.»
«ربما لستُ بحاجة إلى أي شيء.»
«لأن موقفكِ هذا في حدّ ذاته هو جوهر الدين الحقيقي، إذا جاز لنا القول.»”
لكن ماذا لو كان هذا الدين ما هو إلا محض هراء ابتدعها “الزعيم” لإرضاء شهواته الحيوانية؟ أنا أرى أن موراكامي ابتدع فكرة الدين للتحذير من الجماعات السريّة التي بدأت تظهر في تلك السنوات من عالم الرواية، فلدينا جماعة الشهود وجماعة ساكي-جاكه، وهنا نستنتج سبب تسمية الرواية: إنها استعارة من رواية 1984 لجورج أورويل، حيث احتوت الرواية على أقذر سلطة بشرية يمكن للمرء تخيّلها، لذلك قذارة زعيم ساكي-جاكه لا تقل قذارةً عن دولة أوشينا. أوشينا دولة شمولية، حيث الأخ الأكبر في كُل مكان يُراقِبك، أما ساكي-جاكه تكمن قذارتها في طريقة عبادتهم: التقرّب للزعيم بإعطاءه الفتيات الصغيرات اللائي لم يحضن ليتم اغتصابهنّ.
ثم لدينا بعض الالتفافات الأخرى الغير مهمة كثيراً، مثل تلك الروح الجوّالة، روح والد تنغو الذي حتى وبعد موتِه سريريّاً استمرّت روحه في طرق أبواب المنازل لتحصيل اشتراكات NHK، والحقيقة أن موراكامي أبدع في إضافة عنصر الرعب على روايته من خلال والد تنغو المُضطّرب، وقد دار حديث بين تنغو والممرضة يبيّن لنا تلك الروح الجوّالة:
“«لابد أن والدك كان يحبّ عمله بشدة. الطواف على المنازل لتحصيل اشتراكات NHK»
«لا أظن أنها مسألة حب أو كراهية»
«ماذا تكون إذاً؟»
«إنه الشيء الوحيد الذي كان يُجيده.»”
الآن دعوكم من كل ذلك الهراء أعلاه، جميع تلك الأحداث الغير منطقية يمكن تفسيرها بهذا التفسير: تلك القصص جميعها تحدث في مكانٍ ما داخل عقل تنغو فقط.
حيثُ أن تنغو عالقٌ في وعيه -حرفيّاً- تماماً كقصّة الرجل الضائع في بلدة القطط التي ورد ذكرها وقرأها تنغو مراراً وتكراراً وتوقّف عند كلمة: “إنه مكان يقصده المرء ليضيع”. هنا يأتي دور فوكادا الذي يعرف تنغو في العالم الواقعي ويريد إخراجه من حالة اللاوعي التي يُغرِق نفسه بها.
يقوم فوكادا ببناء خطّة بمساعدة أومامه، والتي قد تكون أي فتاة ما، لأن ذكريات تنغو عن أومامه هي مجرد ذكرى واحدة طفوليّة، لدخول عقل تنغو الباطن وانتشاله من أوهامه، ويخلق بذلك شخصيّات هي: أومامه وفوكا-إري والبروفيسور إيبسونو والأرملة العجوز وتامارو ويوشيكاوا، جميعهم موجودون في عقله، ما عدا والده المريض وصديقته التي تكبره سناً وكوماتسو. لذا نفترض أن فوكادا هو الذي يريد إنقاذ تنغو فعلاً.
إذاً كيف يخرج تنغو من أوهامه؟ يقوم فوكادا بإنشاء الدين السريّ الذي يقوم على اغتصاب الفتيات الصغيرات. تسير أحداث الحبكة كما وردت في الرواية، حيث يقتنع كوماتسو بإعادة كتابة الشرنقة الهوائية، وبعد عدّة أحداث كان يجب أن تلتقي أومامه الافتراضية بـ تنغو ليتبعها للخروج إلى العالم الحقيقي.
“الأشياء ليست كما تبدو عليه” هكذا يُحذّر سائق التاكسي أومامه قبل الشروع بمغامرتها لإخراج تنغو من عقله.
وحين تقتل أومامه الزعيم فوكادا يدور بينهم هذا الحديث:
إذاً لقد دخلت أومامه إلى عالم تنغو الوهمي، العالم الذي يحوي قمرين والناس الصغار، بل لقد صدّقت أوهام تنغو في ذلك. حيث أن ساكي-جاكه كانت تحميها لكن تنغو أقنعها أن ساكي-جاكه تحاول قتلها.
ما يُعزز هذه الفرضية هي أن ساكي-جاكه طلبت من تامارو الالتقاء بأومامه، قالوا: “نستطيع الوصول لتسوية، ونستطيع إعطائها الحرية” لكنها صدّقت أوهام تنغو وقررت مُلاقاته والفرار معاً. الفرار إلى أين؟ الوصول إلى العالم الحقيقي أو الغرق أكثر في أوهام تنغو؟ والد تنغو الذي أخبره: “لقد كنت نكرة، وأنت نكرة، وستظل نكرة”، هذه العبارة تثبت تلك الفرضية أيضاً.
الآن هذه الفرضية ليست من بنات أفكاري، بل هي إحدى الفرضيات التي أعجبتني المنتشرة على الانترنت، ولو كان الأمر كذلك، أو كان الأمر مجرد قصة سرديّة ذات ٣ مسارات فستبقى النتيجة واحدة: هذه الرواية تستحق القراءة بالطبع.
وانضم الناس الصغار الستّة الآخرون: هاها.